Wednesday, December 28, 2005

الامم المتحدة هي الحَكم في الانتخابات

لم تكن مجمل نتائج الانتخابات الاخيرة مفاجأة كبيرة. فقد كان فوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد متوقعا في محافظات الجنوب والوسط. بل انها كانت تشكل منافسا قويا ورئيسا في مناطق بغداد وبعض المناطق ذات الاغلبية السنية كذلك. فهذه القائمة التي حظيت بتأييد شعبي واسع نجحت في استمالة اغلبية الناخبين من الطائفة الشيعية بعد ان اصدرت المرجعية الشريفة مجموعة من الوصايا في الانتخاب تكاد لا تنطبق على غير قائمة الائتلاف.
وليس مفاجئا كذلك تمكن هذه القائمة من حصد المقاعد البرلمانية منفردة في معظم المحافظات الجنوبية. وهوت امامها قوائم كانت تعتبر منافسا قويا، كالقائمة العراقية لاياد علاوي، والمؤتمر الوطني لاحمد الجلبي، وقائمة الكفاءات لعلي الدباغ، وقائمة مثال الالوسي، وقائمة ليث كبة، وقائمة حازم الشعلان، وقائمة ابراهيم بحر العلوم وغيرها كثير. وبات معظم هؤلاء في انتظار المقاعد التعويضية للحصول على مقعد او اثنين في مجلس النواب القادم.
لكن المفاجأة ان يهزم الحزب الشيوعي العراقي في عقر داره، محافظة بابل، فلا يستطيع رغم تحالفه مع القائمة الوطنية العراقية، الحصول على مقعد واحد لممثله مفيد الجزائري، ابن الحلة والمسؤول الثاني في هذا الحزب.
والمفاجأة ان لا يتمكن اهل السنة من الحصول ولو على مقعد يتيم من بين المقاعد الاحد عشر المخصصة للمحافظة، رغم انهم يشكلون نسبة تتراوح بين 15 الى 20% من سكان المحافظة. خصوصا وانهم هذه المرة شاركوا بكثافة في مناطق شمال المحافظة بعد ان وفرت قوات الشرطة والجيش العراقي الظروف الامنية الملائمة.
واذا كان من غير المعقول ان تتم اية انتخابات في العالم بدون حصول خروقات، فانه من غير المعقول ايضا ان تكون الخروقات التي حصلت في انتخاباتنا قد ادت الى فوز قائمة واحدة وخسارة الباقين جميعا. فالتزوير –اذا كان قد حصل فعلا- يجب ان يمتد ليشمل قطاعا واسعا من موظفي الانتخابات، وبمشاركة كبيرة من المؤيدين والمناصرين بين المراقبين، وبطرق فنية وخدع واساليب تضليل من المستبعد ان نكون قد حصلنا عليها، ونحن لا نبلغ سوى عامين من الديمقراطية واللعبة الانتخابية.
لذلك فبدلا من الطعن في نتائج الانتخابات يجب على جميع الكيانات السياسية ان تعيد النظر في استراتيجياتها، وبرامجها وخطابها الجماهيري. ويجب على هذه الكيانات ان تراعي الظروف والاوضاع الراهنة عندما تتوجه للمواطن، لا ان تنعزل في صومعة اغلب الوقت، ثم تنزل من عليائها فقط في فترة الحملة الانتخابية. فبدلا من ان تلعن الظلام اشعل شمعة. ولكن في المقابل، فقد اعترفت المفوضية العليا للانتخابات ان من بين المئات من الشكاوى التي استلمتها بعد الانتخابات، فان هناك شكاوى حول مخالفات جدية يبلغ عددها بضعة عشرات، وانها بصدد التحقيق في كل واحدة والنظر في الاجراءات المترتبة عليها في حالة ثبوتها. وتلك الاجراءات قد تكون بالغاء نتائج الانتخابات في احد المراكز او المحطات الانتخابية، كما حصل في تركيا مثلا. وقد تكون باعادة الفرز والعد، او بالغرامة والفصل للموظفين المقصرين وغير ذلك. لكنني لا اعتقد ان نتائج الانتخابات سوف تتغير جوهريا باي من هذه الاجراءات. كما ان طلب اعادة الانتخابات بناءا على تلك الشكاوى قد لا يكون امرا عمليا، نظرا لعدم وجود آلية لمثل هذا الاجراء. فقانون ادارة الدولة والدستور الدائم كلاهما لا يعالج الحالة التي تنجم عن عدم قبول لنتائج الانتخابات، ولا يحددان مرجعا قضائيا للفصل في المنازعات الناشئة عن هذا الرفض. ويبدو ان واضعي كلا منهما كانت تحدوه حسن النية ويفترض ان الامور ستسير على ما يرام على الدوام.
ومع ذلك يبقى هناك دائما مجال لتدخل راعية العملية السياسية وضمانتها في العراق، واعني بذلك الامم المتحدة. فهذه الهيئة الدولية هي التي شكلت مفوضية الانتخابات، وهي التي تساعدها في عملها بتوفير الخبرات والكفاءات والتدريب اللازم لانجاح العملية الانتخابية المعقدة، اضافة الى الدعم اللوجستي. وهذه المنظمة الدولية تمتلك من الشرعية الدولية والمحلية ما يكفي لمليء اي فراغ قانوني نتج عن الاعداد المتعجل لقانون الدولة الاساس.
واخيرا فان الامم المتحدة بامكانها ان تكون الحكم في اي نزاع قانوني، نظرا لكونها اصلا من امضى قانون ادارة الدولة، ومن قبله الجدول الزمني للعملية السياسية في العراق. وهي التي اشرفت على تشكيل اول حكومة ذات سيادة. كما انها ساعدت في انجاح العمليات الانتخابية الماضية. واذا استمرت الازمة السياسية الناجمة عن عدم القبول بالنتائج المعلنة من قبل المفوضية، فستكون هيئة الامم المتحدة الجهة الوحيدة القادرة على فض الخلاف، والقادرة على فرض النتائج او اعادة الانتخابات اذا وجدت ذلك مناسبا.

Wednesday, December 21, 2005

المعركة القادمة اشد من معركة الانتخابات

بعد ان وضعت معركة الانتخابات اوزارها، وهدأ هدير الدعاية الانتخابية، وسكتت طبول الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين.. وبانتظار اعلان النتائج النهائية وحصة كل من الاحزاب والتنظيمات من مقاعد مجلس النواب ذي الاربع سنوات، لابأس في وقفة للنظر في ما يمكن ان يحدث من تحالفات في طريق تشكيل الحكومة التالية، وما يمكن ان تتمخض عنه هذه التحالفات.
وليس بخاف ان قائمة الائتلاف العراقي الموحد قد استطاعت ان تحقق فوزا منقطع النظير في مناطق الجنوب والوسط، بمنافسة ضعيفة من القائمة الوطنية العراقية، وبانعدام الوجود الجدي لاية قائمة اخرى، من بينها قوائم لشخصيات ذات بعد سياسي يمتد لفترة طويلة، ويفترض ان تكون قادرة ولو على اثبات وجودها في هذا المعترك. وتشير النتائج الاولية ان قائمة الائتلاف يمكن ان تحصل على نسب تزيد على 80% من المقاعد المخصصة للمحافظات الجنوبية والفرات الاوسط. بينما نافست القائمة الوطنية قائمة جبهة التوافق العراقية في محافظات غرب العراق، وانفردت قائمة التحالف الكردستاني في حصد مقاعد محافظات شمال العراق. ويبقى امل بسيط لجميع الكيانات السياسية في احتلال مقعد او اثنين من جملة المقاعد التعويضية البالغ عددها 45 مقعدا.
ان الحسابات المعتمدة على النتائج غير الرسمية والتي تعلنها الاحزاب من جانبها دون ان تؤكدها او تنفيها المفوضية العليا للانتخابات، تشير الى ان ما يزيد على نصف المقاعد البرلمانية سوف يذهب الى قائمة الائتلاف، يليها التحالف بما يقارب الخمس، والقائمة الوطنية والجبهة باقل من ذلك، وما تبقى سيتوزع فرادى او مجاميع صغيرة لكيانات تمثل الاقليات المختلفة.
وعلى هذا الاساس فان القائمة (الشيعية) ستأخذ الحصة المناظرة لنسبة عدد السكان (الشيعة)، ونفس الامر ينطبق على القائمة (الكردية)، بينما بقي تمثيل (السنة) موزعا بين القائمة الوطنية (العلمانية) وجبهة التوافق (السنية). ونظريا يمكن للائتلاف باحتلاله اغلبية المقاعد ان يشكل الحكومة القادمة بدون منازع. ولكن يجب على الائتلاف ان يجد حليفا لمساندة انتخاب مجلس الرئاسة الذي يقتضي حصوله على ثلثي الاصوات البرلمانية. وعلى الارجح سوف يعيد الائتلاف تحالفه السابق مع التحالف الكردستاني لهذه الغاية. وفي هذه الحالة فسوف يعمل التحالف على ضمان حصوله على منصب الرئاسة الاول واحدى الوزارات (السيادية) وتحديدا وزارة الخارجية.
واذا حاول الائتلاف ان يشكل حكومة وحدة وطنية، فربما ستكون مشابهة للتي شكلها الدكتور ابراهيم الجعفري. فجبهة التوافق سوف تطالب بمنصب نائب رئيس الجمهورية ووزارتين سياديتين وربما وزارتين اخرتين. اما القائمة العراقية فانها لن تقبل باقل من منصب رئيس الوزراء، او منصب نائب رئيس الجمهورية مع وزارتين سيادتين. غير ان القائمة العراقية التي طرحت رئيسها الدكتور اياد علاوي منذ البداية كرئيس للحكومة المقبلة، فانها قد لا تستطيع الحصول على أي مقعد وزاري، وستقنع بدور المعارضة.
ويبقى مجال للمناورة عبر منصب نائب رئيس مجلس الوزراء مع جميع القوائم التي تروم المشاركة في الحكومة. من جهة ثانية، فان الائتلاف قد لا يعيد ترشيح الجعفري، نظرا لتعدد الاحزاب والكيانات ضمن هذه القائمة. فالمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق والذي يشكل العمود الفقري لتلك القائمة لن يتخلى هذه المرة عن رئاسة الحكومة، كما ان التيار الصدري سوف يضغط بقوة ليكون في طليعة الحكومة، من خلال مناصب وزارية مهمة.
اما اذا انفردت قائمة الائتلاف بتشكيل الحكومة وارسلت بقية القوائم الى جناح المعارضة، فانها سوف لن تكون قادرة على تقديم أي شيء مهم. وهي بذلك ستكون وضعت حدا للتقدم الديمقراطي، وترسخ مبدأ سيادة الاغلبية بدون مراعاة الاقليات، وبالتالي سوف ينفرط العقد السياسي، وتطغى الحكومات المحلية على سلطة الحكومة الوطنية. لكن هذا الاحتمال بعيد لان قائمة الائتلاف تدرك جيدا ان نجاحها يعتمد بشكل اساس على التوافق الوطني.
ان المعركة القادمة، المتمثلة بتشكيل الحكومة ربما ستكون من اشد المعارك الديمقراطية التي شهدها العراق، نظرا للتنافس القوي على المناصب المتقدمة. وقد يستغرق تشكيل الحكومة فترة تزيد على فترة الثلاثة اشهر التي استغرقتها حكومة الجعفري. واذا اخذ بنظر الاعتبار ان المجلس النيابي سوف يعيد النظر في الدستور، بدون استثناء مواد معينة، حسب الاتفاق الذي ابرم مع الحزب الاسلامي قبيل الاستفتاء على الدستور، فان التأخير في تشكيل الحكومة سوف يؤثر بشكل جدي على هذا الاستحقاق المهم. وسيكون النجاح في الايفاء بهذا الاستحقاق اول مؤشر على الخروج من عنق الزجاجة الذي دخل في الوضع العراقي بعد طغيان التوجه الطائفي الذي اكدته نتائج الانتخابات. واذا مرر الدستور شعبيا فاننا نعتقد ان المستقبل سيكون اكثر اشراقا مما يبدو عليه اليوم، وهذا امتحان آخر امام جميع المكونات السياسية للعمل سوية من اجل هذه الغاية.

Tuesday, December 06, 2005

بين الجعفري وعلاوي وامنية حكومة الوحدة الوطنية

لم يشهد التاريخ الحديث لاي دولة -على ما نعلم- مثل هذا التزاحم السياسي للاشخاص والاحزاب والاحداث، كالذي حدث ويحدث في العراق خلال هذه المرحلة. هذا التزاحم الذي يعود سببه اساسا الى ضعف الاستراتيجية الامريكية في العراق، وارتكابها لسلسة طويلة من الاخطاء منذ اسقاط نظام الطغيان فيه وصولا الى تسليم السيادة. كما أثر غياب التنسيق الوطني، وتناحر الاحزاب والشخصيات المعارضة للنظام السابق، بشكل سلبي على مسيرة العملية السياسية بشكل عام.
وفي ظروف استثنائية مثل التي يمر بها العراق، ربما يعد التنافس السياسي امرا مساعدا على غربلة العناصر المختلفة في الساحة، واتاحة الفرصة لتمييز الغث من السمين. ولكن المشكلة ان التوقيتات الزمنية للاستحقاقات السياسية هي متقاربة بشكل كبير. وهذا التقارب الزمني ادى الى تشويش في ذهنية المواطن، وارتباك في تحديد دوره. ذلك ان الارادة الحرة للانتخاب والاستفتاء تعتمد بشكل كبير على مقدار الاستعداد النفسي للفرد، كما تعتمد على التوعية والثقيف الفردي والجماعي. فحتى في اكثر النظم ديمقراطية واقدمها، نجد ان الدولة تعمل على توفير المعلومات وتهيأة المستلزمات للعمليات الانتخابية قبل فترة غير قصيرة من موعدها المحدد، كما تقوم مؤسسات متخصصة، تتلقى دعما من الدولة او من المجتمع، على تثقيف الناخبين، وتهيئة الاجواء المناسبة للانتخاب، وارساء دور الرقابة العامة على مجمل العملية الانتخابية.
من ناحية اخرى، فانه لم تتح الفرصة الكافية للتيارات المختلفة، الدينية منها والعلمانية، لاثبات قدرتها على تحقيق طموحات وآمال الشعب، وعرض برامجها السياسية بشكل عملي من خلال تواجدها في السلطة. وكانت الحكومتان اللتان خلفتا سلطة الحاكم المدني الامريكي مقيدتين بهذه التوقيتات الزمنية، ومنشغلتين بشكل أساسي في توفير الظروف المناسبة لتطبيق الجدول الزمني الذي أعده مجلس الحكم السابق. وواجهت كل منهما نفس التحديات المتمثلة بالخلل الامني، والفساد الاداري، وتردي الخدمات، وتلكؤ عملية اعادة الاعمار، علاوة على مشاكل البطالة والضمان الاجتماعي. كما ان كلا منهما، بحكم كونه تيارا سياسيا، كان يرتسم ملامح وجوده ضمن اللعبة السياسية في المستقبل، مما جعلهما على نفس القدر من الانشغال الذاتي، بما يفوق الانشغال بالشؤون العامة.
وفي مثل هذا المشهد السياسي ليس من السهل على الناخب اليوم الحكم على اداء الحكومتين السابقتين، او اختيار تيار مغاير لتمثيله في الحكومة القادمة، والتي سيستمر وجودها لاربعة سنوات على الاقل. فحكومة اياد علاوي التي تم تشكيلها بالتوافق مع مجلس الحكم السابق والامم المتحدة اضافة الى الحاكم المدني، لم يكن لعلاوي نفسه يد في اختيار شخوصها. وكانت المحاصصة، التي طغت على مجلس الحكم، هي الصيغة التي تشكلت بموجبها تلك الحكومة. ولذلك فان اي خلل في اداء تلك الحكومة يمكن ان يعزى الى وزرائها منفردين، اكثر مما يُعد علاوي مسؤولا عنها بشكل مباشر.
وبعد اجراء الانتخابات، وتشكيل حكومة الجعفري، فرضت المحاصصة نفسها من جديد، بعد ان غاب او غيّب عن التمثيل البرلماني ممثلو المحافظات الغربية. ولكن الجعفري شكل الحكومة باختياره، وهو مسؤول عنها بشكل مباشر. غير ان تلك الحكومة واجهت اصعب التحديات على الاطلاق، الا وهو كتابة مسودة الدستور وتمريره بالاستفتاء العام. وقد نجحت هذه الحكومة في ذلك، رغم الاعتراضات والتحفظات التي أثيرت حول الدستور.
ان ترجيح كفة الميزان لصالح اي من هاتين الحكومتين بناءا على ادائهما في فترة توليهما السلطة لن يكون منصفا بحال. والواقع انهما قدمتا افضل ما يمكن تقديمه ضمن الظروف والامكانيات المتاحة. ولكن هناك فرق بين اداء الحكومة، وسيرة الاحزاب المؤلفة لتلك الحكومة. ففي فترة حكومة علاوي، سعت بعض الاحزاب، استمرارا للنهج الذي ساد في فترة مجلس الحكم، الى فرض هيمنتها على الوزارات والدوائر الحكومية. بيد ان حزب علاوي، الوفاق الوطني، لم يكن له مثل هذا الدور. اما في فترة حكومة الجعفري، والتي استمر فيها هذا التوجه، فقد كان حزبه، الدعوة الاسلامية، مشاركا فيه بشكل واضح.
وفيما يخص الملف الامني، فاننا لا نعتقد ان ايا من الحكومتين كانتا قادرتين فعلا على تحقيق تقدم ملموس، ولكن حكومة علاوي واجهت التمرد بشجاعة اكبر، بينما حاولت حكومة الجعفري احتواءه. ومؤتمر القاهرة قد يحسب انجازا للجعفري، ولكنه تحقق بفضل مواجهات علاوي السابقة. اما الفساد الاداري، فهو علة مستعصية، وهو أشد مخلفات نظام صدام تأثيرا، ولكن للاسف لم تتخذ ايا من هاتين الحكومتين اجراءات حازمة بشأنه، ربما بسبب صعوبة اثباته بالنسبة للافراد، وان سهل تشخيصه بالنسبة للمؤسسات. ان الخلل الامني وتفشي الفساد الاداري حالا دون تحقيق قفزة في اعادة الاعمار او في حل مشكلة البطالة المزمنة، في كلا فترتي الحكومتين.
والمجال لا يتسع لعقد مقارنة منصفة، ولكننا نعتقد ان اخطاء اياد علاوي حصلت لان حكومته لم تكترث به كثيرا، وان اخطاء ابراهيم الجعفري كانت لانه كان يكترث بحكومته كثيرا. ولو تسنى في المستقبل جمع الرجلين في حكومة واحدة لكانت -بحق- الحكومة التي تخدم الشعب والوطن.

Tuesday, November 29, 2005

ضياع الهوية ام ضياع المقاعد النيابية؟

بدأت الحملات الانتخابية للقوائم المرشحة لمجلس النواب بالتصاعد يوما بعد يوم. وغزت الشوارع والساحات والبنايات الحكومية والاهلية وغيرها لافتات تدعو المواطنين الى التصويت لهذه القائمة او تلك. وحاولت الكيانات السياسية من خلال ملصقاتها ولافتاتها واعلاناتها المتلفزة ان تشرح برامجها الانتخابية، لحث الناخبين على الادلاء باصواتهم بموجب هذه البرامج. وركزت بعض هذه الاعلانات على شخصية معينة من بين المرشحين على اساس انها تمتلك المواصفات الكفيلة بتحقيق امال الشعب العراقي وارساء الأمن وتحسين الخدمات واعادة الاعمار وغير ذلك من الاهداف التي تلامس قلوب العراقيين الطامحين لتحقيق ابسط قدر منها على الاقل.
والحق ان هذه الدعاية الانتخابية هي بحد ذاتها مكسب للشعب. فبخلاف ما جرى في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني، لم ترتكز هذه الدعاية على استلاب حرية المواطن وتحديد خياراته من خلال استعمال الرموز الدينية وتوظيفها لصالح قائمة بعينها. وهذا يؤشر تطورا مهما في العملية الديمقراطية قد يكون سببه زيادة الوعي الانتخابي لدى الشعب. كما ان مثل هذا التطور خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة يؤكد حضور الذهنية العراقية ويقضتها. ولو حاولت قائمة ما ان تسعى لاقحام الدين كعامل حاسم في التصويت لاصيبت بنكسة كبيرة قد لا تستفيق منها ابدا.
ولكن اسس الدعاية في الانتخابات الحرة لم تستقر بعد، ولم تصبح متينة بما فيه الكفاية لتجاوز الدعاية السلبية القائمة على الطعن في الاخرين لمجرد اسقاطهم، وتحديد خيارات الناخب لصالح القائمين عليها فقط. من ذلك ادعاء البعض ان الانتخابات القادمة هي انتخابات (تحديد الهوية)، بمعنى ان نتائجها يجب ان تعكس اطياف الشعب العراقي بنسبة مماثلة لاعدادها السكانية. ورغم ان هذا المبدأ يبدو منصفا، الا ان اعتماده اساسا في التصويت قد يؤدي الى عواقب وخيمة. فلو كان التمثيل البرلماني قائما على الطائفة او العرق لكانت الفئة الاكبر هي التي ستتولى اتخاذ معظم القرارات طالما انها تمتلك الاغلبية في مجلس النواب. غير ان مجلس النواب لا يختص بطائفة وان كانت اغلبية الشعب. واوضح مثال على ذلك انتخاب رئيس للعراق من الطائفة الكردية، ومع ذلك فقد مثل العراق في شتى المحافل ومنها جامعة الدول العربية، رغم انه ليس عربيا.
واذا كان القانون الانتخابي الحالي يتيح المجال امام المحافظات لارسال ممثليها الى البرلمان، فليس معنى ذلك ان هؤلاء سيكونون ممثلين لمحافظاتهم فقط، بل انهم ممثلين لجميع العراق. وحقيقة انهم اصبحوا في مجلس النواب بفضل اصوات محافظاتهم يحملهم مسؤولية تلك المحافظات، ولا يعفيهم من اثبات اهليتهم على المستوى الوطني كجزء من رد الفضل الى تلك المحافظات التي صوتت لهم. ولهذا فان العامل الاساس في التصويت يجب ان يكون اهلية المرشحين وكفاءتهم علاوة على البرنامج الانتخابي، بغض النظر عن الطائفة او العرق.
ان مبدأ (تحديد الهوية) انما هو مناورة انتخابية لاستجلاب الاصوات لهذه القائمة او تلك، وصرف النظر عن مرشحيها. ولو كانت هذه القائمة او الكيان تعتقد باهلية مرشحيها او اخلاص برنامجها الانتخابي لما سعت الى استخدام هذه المناورة. فالانتخابات وسيلة ديمقراطية للتعبير عن طموحات وامال الشعب. وفكرة الانتخابات الحرة قائمة على ان المواطن حر، بدنيا ونفسيا وفكريا، في الادلاء بصوته لصالح الجهة التي يعتقد انها الافضل تمثيلا له.
بالطبع يمكن الاحتجاج ان الحالة المثالية للانتخابات الحرة غير ممكنة، وهذا صحيح ككل الاشياء المثالية في حياة البشر. لكن الحكم في ذلك يعود الى مقدار اقتراب الحالة قيد النظر من الحالة المثالية. فالقول للناخبين ان برنامج قائمة ما يتضمن كذا وكيت، يختلف عن القول لهم ان التصويت لقائمة اخرى هو امتثال لامر ديني. ففي الحالة الاولى يمكن تصور خلاف الموضوع المطروح، بينما لا يمتلك الناخب في الحالة الثانية خيارا في تصور الخلاف. ولهذا فان الحالة الاولى اقرب الى قواعد الديمقراطية من الحالة الثانية. وقد يكون برنامج القائمة في الحالة الاولى محض تصورات غير واقعية ويكون مرشحو هذه القائمة غير اكفاء او وصوليون طامعون في المنصب والجاه. ولكن ذلك لا يعني انهم اسوأ من مرشحي القائمة التي تتحزب للطائفة على اساس الخوف من ضياع الهوية، او القائمة التي تستند الى المقدس بدعوى حسابات فلكية عجيبة. من ناحية اخرى، فان كثرة القوائم والكيانات المتنافسة في هذه الانتخابات ادت الى تشوش ذهنية الناخب وتشتته بين البرامج الانتخابية والاحزاب والشخوص، علاوة على العوامل القومية والدينية والثقافية التي تحدد خياراته. وتجد الكثير من المواطنين يعبر عن اعجابه بشخصية ما في احدى القوائم، وبشخصية اخرى في قائمة اخرى.. ومع ذلك فهو يعتقد ان عليه ان يصوت لقائمة مغايرة لكل منهما. وسبب هذا التنازع، ان هناك كما هائلا من الخيارات، يقابله تشابه في البرامج، مما يجعل الناخب في حيرة كبيرة ويحثه الى اتباع الطريق الاسهل عادة، مثل التصويت على اساس ديني او عرقي او طائفي.
لذلك فاننا ندعو الى النظر بروية في البرامج الانتخابية اولا، والى سيرة المرشحين ثانيا، وخصوصا ما افرزته المرحلة السابقة من شخصيات وطروحات فكرية وسياسية. ومسؤولية التصويت هي في النهاية ذاتية غير مرتبطة بالحزب او الطائفة او المذهب او العرق.

Tuesday, November 22, 2005

من الحلة الى عمّان.. ارهاب واحزاب

في الثامن والعشرين من شباط الماضي قام انتحاري يقود سيارة مفخخة باستغفال الشرطة المحلية التي كانت تقف على مقربة من العيادة الشعبية في مدينة الحلة، وإلتف من شارع جانبي ليفجّر سيارته في طابور من طالبي التوظيف الذين كانوا ينتظرون خارج العيادة لفحصهم طبيا، مما تسبب في مقتل وجرح العشرات منهم. وافادت التقارير حينها ان هذا الانتحاري هو اردني الجنسية ويدعى رائد البنا، وان اسرته قد تلقت التهاني بـ(استشهاده)، مما ادى الى قيام آلاف العراقيين بالتظاهر في بغداد والمدن العراقية الاخرى. وقد هاجم المتظاهرون السفارة الاردنية في العاصمة العراقية واقتحموا المبنى واحرقوا العلم الاردني، كما طالبوا بترحيل كافة العرب من العراق وشتموا الملك الاردني عبدالله الثاني. وجاء في بيان اصدرته الحكومة العراقية انها "تدين مظاهر الفرح التي ابدتها عائلة الانتحاري الاردني، وان رئيس الوزراء العراقي قد قام شخصياً باستجلاء الموقف من الحكومة الأردنية، معبراً لهم عن غضبه واشمئزازه من هذه الفعلة"، ومضى البيان الى القول: "إن هذا الفعل من شأنه أن يلهب مشاعر أبناء شعبنا تجاه أشقائهم في المملكة الأردنية ويسيء إلى علاقات الاخوة وحسن الجوار." من ناحيتها، اعلنت السلطات الاردنية انها القت القبض على الصحفي الذي كان قد اورد الخبر، لنشره اخبارا كاذبة تسئ للبلاد. كما نشرت الصحيفة التي يعمل الصحفي لحسابها تصحيحا من اسرة البنا تنفي فيه ضلوعه في هجوم الحلة.
وفي التاسع من تشرين الثاني تعرضت ثلاثة فنادق سياحية في عمّان الى هجمات انتحارية، ثبت فيما بعد انها من فعل ثلاثة انتحاريين عراقيين، بالاشتراك مع زوجة احدهم ولكنها فشلت في تفجير نفسها في تلك العملية. وادت هذه الهجمات ايضا الى اصابة ومقتل العشرات من الضحايا الابرياء الذين كان معظمهم يشارك في حفل زواج. وعلى خلفية هذا الاعتداء استقبل رئيس الوزراء الاردني وزير الدفاع العراقي الذي نقل رسالة الى العاهل الاردني من رئيس الوزراء العراقي تتضمن تنديده واستنكاره للاعمال الارهابية التي تعرضت لها العاصمة عمّان. وقال المسؤول العراقي انه يحمل كذلك رسالة تعزية ومواساة من الحكومة والشعب العراقي الى "اخواننا واهلنا في الاردن لان مصاب الاردن هو مصاب للعراقيين". واضاف نحن نشكل ساحة واحدة نتشارك في السراء والضراء وشركاء في مواجهة الارهاب الذي لا يفرق بين مدينة واخرى وبلد واخر. كما اكد وزير الدفاع العراقي ان العراقيين في الاردن هم بين اهلهم وان "اخواننا في الاردن لم يقصروا معهم اما من يسيء الى نفسه واهله فهذا له حساب اخر ولكن ما لمسته انه لا يوجد أي شيء ضد العراقيين الموجودين هنا".
فما الذي تغير بين شباط وتشرين؟ وكيف رُققت لهجة الحكومة العراقية واصبحت اكثر تعاطفا وشعورا بالمسؤولية؟ لاشك انها الحقيقة التي طالما هربت منها، وانكرتها ورفضتها، وهي ان العراقيين هم ايضا يمكن ان يكونوا انتحاريين، وانهم هم ايضا يمكن ان يصدروا ارهابا. فقد كانت العقيدة السائدة قبل تفجيرات عمّان ان ما يحدث من هجمات انتحارية في العراق انما هو من فعل (المجاهدين) العرب المغرر بهم، والذين دخلوا العراق بصورة غير شرعية. والحكومة العراقية كانت تلمح حينا وتصرح احيانا اخرى الى تلقي هذه المجموعات الدعم الخارجي وتدعو بلدان الجوار الى حفظ حدودها.
لا شك ان الكثير من العمليات الانتحارية وغيرها قد تم تنفيذها عن طريق هؤلاء المتسللين. ولا ريب في ان بعض دول الجوار لا تولي مسألة حماية الحدود المشتركة الاهتمام الكافي لاسباب سياسية ولوجستية، وانها ربما تكون ضالعة في تلك العمليات. ولكن ما حدث في عمّان قد كشف الوجه الاخر للقصة، واصاب العراقيين بصدمة جديدة تضاف الى صدماتهم السابقة. والعراقيون لم يستفيقوا بعد من صدمتهم بحكومتهم المنتخبة، وصراعها وتهافتها على السلطة واهمالها لشؤون المواطنين، ولم يفرغوا بعد من قراءة الدستور الذي لم يروه قبل ان يصوتوا عليه، ليجدوا انهم ضحايا حملات التضليل المنظم، وانهم أستخدِموا كأداة في السياسة الداخلية للاحزاب المتنافسة، حتى على حساب العلاقات الدولية وما يمكن ان ينتج عنها من تداعيات قد لا تحمد عقباها. فالذين اججوا المظاهرات ودفعوا الجموع الى اقتحام السفارة واحراق العلم الاردني، مستندين الى اخبار لم تثبت صحتها، لم يخرجوا لاظهار التعاطف مع ضحايا تفجيرات عمّان والتي ثبت انها من فعل عراقيين. كيف وهم إنما دفعتهم الى اتخاذ ذلك الموقف اجندة سياسية معينة لم تعد خافية على الشعب العراقي. وقد كان الاولى، قبل القاء التهم جزافا وتأليب الرأي العام، ان يتم التحقيق في جريمة الحلة وغيرها، باستخدام الوسائل التقنية المتاحة، لتحديد هوية المعتدي ومن يقف وراءه. ولكن يبدو ان بعض السياسيين في عراق اليوم لم تعد تهزهم التفجيرات اليومية، ولا سقوط العشرات من القتلى والجرحى، ولا ثكل الارامل ويتم الاطفال. فهؤلاء غرّهم الكرسي والمنصب والجاه كما غرّ صداما من قبل، ولا عجب!!

Tuesday, November 15, 2005

سوريا بين المطرقة والسندان

منذ بداية التغيير الديمقراطي في العراق، والذي تزامن مع ظهور الحركات التكفيرية و(الجهادية) وما يسمى بـ(المقاومة)، اشارت اصابع الاتهام المرة بعد الاخرى الى الدولة العربية (الشقيقة) والمجاورة للعراق بدعمها لتلك الحركات، علاوة على ايوائها لعناصر النظام السابق الذين لعبوا دورا مهما في التمويل والتخطيط للهجمات المسلحة في انحاء العراق كافة. ولكن سوريا انكرت باستمرار تلك الاتهامات، و(فبركت) مسرحيات للتدليل على انها هي ايضا هدف للارهاب، وبالتالي فان من مصلحتها ان تحاربه فضلا عن عدم ايوائه. ولكن المصاديق على ارض الواقع كانت تثبت العكس دائما. فالحكومتان العراقيتان السابقة والحالية، امتلك كلاهما ادلة دامغة على هذا التورط، وسعت الوفود المتتالية الى ايجاد ارضية للتعاون من قبل الجانب السوري استنادا الى التصريحات المعلنة من قبله. وقد وصل الامر الى حد ان يشك المسؤولون العراقيون ان الرئيس السوري لا يعلم ما يدور من وراء ظهره، اذ ليس من المعقول ان تكون سياسية اية دولة بهذا المقدار من الازدواجية بين ما تعلنه من مواقف رسمية، وما تخطط له في دوائر مخابراتها.
ومن ناحية اخرى، فان سوريا لم تخفِ تورطها في لبنان، على المستوى العسكري او المخابراتي، وتحكمها في شؤون ذلك البلد (الشقيق) والمجاور لها. وقامت برفد المليشيات اللبنانية بالمال والسلاح والتدريب بحجة (دعم المقاومة الوطنية).. ولكنها لم تنشأ اية (مقاومة) في الجولان وهي اراضيها المحتلة منذ عام 1967. وعلى مدى عقدين من الزمن آوت وساعدت حركة التمرد التركية بزعامة عبد الله اوجلان، ثم اضطرت الى ترحيله بعد ان حشدت تركيا الجيوش على حدودها مع سوريا في محاولة لانهاء ذلك التمرد والقبض على زعيمه. وكانت لسوريا ايضا مشاكل مع الاردن، الجار العربي الاخر، والتي ادت الى غلق الحدود بينهما لفترة طويلة. ولا ننسى ان حدودها مع العراق بقيت مغلقة فترة تقارب العقدين بسبب الخلاف الايديولوجي بين جناحي حزب البعث الحاكمين في كل من البلدين.
وهكذا يتضح ان لسوريا علاقات متوترة وتدخل في شؤون جميع البلدان المجاورة، ولكنه كان سافرا الى حد كبير في الحالة اللبنانية. وهذا التدخل سبب تذمرا في اوساط القوى الوطنية اللبنانية، والتي سعت الى طرد القوات السورية من الاراضي اللبنانية من خلال الدبلوماسية الدولية، ومجلس الامن. واثمرت تلك المحاولات باصدار القرار الاممي 1559 الذي طالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح المليشيات اللبنانية، خصوصا المدعومة من قبل سوريا.
ولكن سوريا التي انتهجت على الدوام سياسة (حافة الهاوية)، كانت تتجاهل تلك القرارات والرغبة الوطنية اللبنانية، دون ان تتعض من التجربة التي مرّ بها النظام السابق في العراق حين واجه المجتمع الدولي، وقاد ذلك الى سقوطه. والواقع ان السياسة السورية انتهجت نهجا مغايرا، وان كان السيناريو متشابها. فحين احتل النظام العراقي دولة الكويت، وافقت سوريا على ان تكون ضمن القوات المتحالفة لتحرير الكويت، ولكنها لم تطلق طلقة واحدة في تلك الحرب. وهي وافقت كذلك على التفاوض مع (اسرائيل)، وان ماطلت وضيعت الفرص المتتالية لاسترجاع الجولان سلميا. وهي انسحبت من لبنان عسكريا بعد (انتفاضة الاستقلال) التي شهدتها لبنان عقب مقتل الرئيس الحريري، وان ظل شك في بقاء عناصر مخابراتها هناك. فهي تتظاهر انها تفعل ما يراد منها عندما يشتد الضغط عليها، ولكنها تفعل فقط الجزء الاقل اهمية، لتبقى مممسكة بخيوط اللعبة.
والمجتمع الدولي ليس غافلا عن هذه الحقائق. ولكن من طبيعة السياسة الدولية ان تنتظر الفرصة الملائمة. وقد لاحت تلك الفرصة بعد ثبوت تورط العناصر المخابراتية السورية، وبتواطؤ مع عملائها في لبنان، في مقتل رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري. وبدأت القوى الدولية في الضغط على سوريا في نفس الوقت الذي تعرض تلك القضية على مجلس الامن الدولي. وشكل مجلس الامن لجنة للتحقيق برئاسة ميليس. وجاء في تقرير تلك اللجنة انه (يصعب ان يتصور حصول الاغتيال بدون علم سوريا نظرا لتواجدها العسكري والامني في لبنان). وفي محاولة لتسفيه هذا الاستنتاج قال وزير الخارجية السوري لمجلس الامن ان ذلك يعني فيما يعنيه ان الولايات المتحدة متورطة في احداث 11 أيلول، وبريطانيا متورطة في احداث 7 تموز. فاجابه وزير الخارجية البريطاني انه اذا كان يلمح الى اشتراك هاتين الدولتين في اعمال الارهاب التي وقعت على اراضيها، فان عليه ان يقول ذلك صراحة. ولكن الوزير السوري لم يجب بشيء، فالقياس هنا مع الفارق. ان سوريا متهمة في نظر مجلس الامن بخلاف الدولتين الغربيتين، وليس من رد الاتهام القول لماذا لا تتهمون الاخرين؟ وفي خطابه الاخير حمل الرئيس السوري على العراق لعدم تعاونه في منع الارهاب، ولبنان كونها ممرا للمؤامرات على سوريا. وهي ذات السياسة السورية العتيقة، من التنصل واتهام الاخرين بما يتهموه بها.
قد لا يكون ا لسيناريو الذي اسقط صدام سوف هو ما سيعتمد في حالة النظام السوري. ولكن سوريا باتت بين مطرقة مجلس الامن الدولي وسندان الرفض الاقليمي لسياساتها. وبذلك فلن تستطيع ان تستمر في دعم (الارهاب)، ولا التحرش بدول الجوار اكثر مما فعلت. وستضطر، كما اضطرت في الماضي، الى تغيير سياساتها في المنطقة لتجنب الحرب التي ستسفر عن تغيير هذا النظام في سلسلة التغييرات الحتمية. وربما ستؤتى من الحكمة القدر الكافي للاعتراف بالذنب، والسعي الى اصلاح نظامها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.

Tuesday, November 01, 2005

حق الحياة المقدس

خلال مسيرة الانسانية تطورت الكثير من المباديء وتهذبت وتشذبت بحيث اصبحت تميزه، وتسجل تحضره وانتقاله من حياة الصيد والغابة الى حياة المجتمع الزراعي والصناعي، واتاحت له التعايش بسلام وامن مع ابناء جنسه. وهذه المباديء ليست بالضرورة ان تكون من صنع الانسان نفسه، بل ان جلّها قد يكون اوحي اليه من خلال الديانات السماوية السامية والتي ارتقت بهذا الكائن الضعيف واكرمته، وعلمته ان يقدس الحياة البشرية ويجعلها اول المحرمات على افراد المجتمع.
ان حق الحياة المقدس ضمنته الديانات كافة، سماويها وارضيها، والقوانين الوضعية على مدى التاريخ المدون في كل الحضارات الانسانية التي نشأت بمختلف اصقاع الارض. والقاسم المشترك لهذا التقديس ان الحياة لا يمكن ان تنتهك الا قصاصا. والقصاص لا يكون الا ببينة وحكم من سلطة مختصة، مع منح المتهم حق الدفاع عن نفسه.
والحروب سمة اخرى من سمات التطور البشري. وهي كثيرا ما اخذت طابع الدفاع عن اهداف نبيلة ومباديء سامية، واكتسبت في بعض الاحيان تسمية الحرب (العادلة). لكنها كانت على الدوام وسيلة لفرض رأي احدى الجهتين المتقاتلتين على الجهة الاخرى. والحرب تعمل على توحيد المجتمع بشكل يفوق ما يمكن لنعم السلم ان تفعله، لانها تضع وحدة المجتمع ووجوده على كفتي ميزان. ولطالما وافق ابناء المجتمع على خوض حرب لم يوافقوا على دخولها اصلا. والزعماء ادركوا ذلك منذ البداية، فجعلوا اشعال الحروب ديدنهم وشغلهم الشاغل. واكتشف هؤلاء ان ربح الحرب يطيل عمرهم ويمدهم باموال تعينهم على البقاء في السلطة، بينما خسارة هذه الحرب يحولهم الى رموز وطنية يحتفل بهم ويمجد لهم.
ان المجتمعات المختلفة اوجدت طريقة للتعايش رغم الاختلاف تقوم على تبادل وجهات النظر واحترام حق كل طرف في ان يعتقد بما يشاء وان يفعل ما يشاء ضمن حيزه ومنطقته. وعمل التبادل التجاري على تقوية الاواصر بين المجتمعات واذابة الفروقات التقليدية. ونشأت روابط اجتماعية نتيجة لهذه الاواصر التجارية وطوعت، رويدا رويدا، بعض المعتقدات والتقاليد لتناسب كل من تلك المجتمعات مع احتفاظ كل منها بخصوصيته وتميزه.
وبالمقابل، بقي نفر في كل مجتمع ينادي بالتقاليد (الاصيلة) ويتباكى على الاعراف المنتهكة. وهؤلاء وان لم يحصلوا على اغلبية في مجتمعاتهم، وانعزلوا في صوامع بعيدة، ونعتوا بالتطرف والتشدد، الا انهم لم يُعدموا موافقة صامتة على مواقفهم. فهم من نسيج ذلك المجتمع ومن نتاجه. وابناء المجتمع الواحد مهما يكن اعتدالهم، لا يستطيعون تقبل التعديل والتحريف على معتقداتهم خلال جيل او جيلين. وهم قد لا يقاومون مثل هذه التعديلات مباشرة، الا انهم لا يمنعون من يقوم بتلك المقاومة، حتى وان سلك طرقا خاطئة في مقاومته تلك.
وهكذا، اذا شعر المجتمع ان قيمه تتعرض الى تغيير (قسري)، حتى ولو كان هذا الشعور ناجما عن جهل ذلك المجتمع بطبيعة ذلك التغيير، فانه لن يسعى الى ايقاف المعارضة المتطرفة. بل انه سيشعر ان السماح لتلك المعارضة بالعمل هو جزء من الواجب المتروك. ولان مبدأ الحرب يحتم انتهاك قدسية الحياة، فان الزعماء المتطرفين لن يجدوا غضاضة في الامر بالقتل والتقتيل لتحقيق مآربهم التي يريدون ان يقنعوا الشعب انها مآربه هو ايضا.
ان ما نشهده اليوم من تطرف في اماكن كثيرة من العالم الاسلامي هو مصداق لما تقدم. فالكثير من المسلمين يعتقد ان هناك مؤامرة غربية على دينهم، وانهم مستهدفون لانتمائهم. واستغل المتطرفون في تلك المجتمعات الاسلامية هذه المخاوف في تجنيد الاتباع، واستباحة الانفس تحت شعار (الحفاظ على الدين) وتصوروا انهم يخوضون حربا مقدسة لانقاذ الدين من هجمات (الكفار). ولكن الحقيقة ان التغيير الذي يحدث اليوم يشمل كل الحضارات والاديان، نتيجة الطفرات العلمية المتتالية، والثورة المعلوماتية، التي الغت الحواجز التقليدية واتاحت لافكار جديدة ان تغزو كل حضارة وكل مجتمع. واذا بدأنا باقناع المجتمعات الاسلامية بان التغيير ليس موجها ضدها، فقد يكون ذلك هو المفتاح لمكافحة التطرف والارهاب الناجم عنه، واعدنا لحق الحياة قدسيته من جديد.

Tuesday, October 25, 2005

الجمعية الوطنية تأخذ المكرمات.. والحكومة تمنحها!

اعتاد النظام المقبور ان يحتفل سنويا بما يسمى بـ(المنجزات) التي حققتها قيادة (الحزب والثورة). وكانت توضع لوحات كبيرة في اماكن مميزة من الابنية الحكومية والمدارس والمؤسسات الصناعية وغيرها تعدد تلك المنجزات. واصبح في وقت لاحق من الواجب على كل مواطن صالح ان يحفظ عن ظهر قلب تلك المنجزات العظيمة، والا واجه انتقادات واتهامات بالعمالة الى احدى الجهات الكثيرة التي تعادي ذلك النظام. وقد كنا نعتقد ان زوال ذلك النظام الفاسد سيؤدي الى زوال هذا التقليد الساذج، الذي يعني فيما يعنيه ان الدولة ليست مضطرة لفعل الاشياء التي تفعلها لخدمة الشعب او لحمايته، وانما هي تفعل ذلك لانها متفضلة عليه. وليس اوضح من استخدام كلمة (مكرمة) في العهد البائد لكل ما يقدم للمواطن حتى ولو كان من (لحم ثوره).
لكن الذي يحدث الان لا يختلف كثيرا من ناحية المبدأ. فـ(المكارم) توزع يمينا وشمالا بدون حسيب او رقيب، وهي تشمل كل شيء تقريبا. فمن التعويضات السخية لبعض (المتضررين) بدون قانون محدد، الى توزيع قطع اراض سكنية على فئات معينة بدون ضوابط اصولية. وكما كان نظام صدام المقبور يقرر في لحظة واحدة ان يمنح (مكرمة) لمحافظة ما، فترصد لها بضعة ملايين تصرف جلها في جداريات وتماثيل للقائد الضرورة، كذلك يقرر اليوم السيد رئيس الوزراء ان يمنح محافظة، او مدنية ما، تخصيصات مالية من اجل تطوير بنيتها التحتية. وهكذا، فليست هناك اهمية للخطط المستقبلية او المرحلية، وليست هناك اعتبارات للضرورات الفنية، وليس هناك من معنى للميزانيات العامة والتخصصيات السنوية. فكل ما يهم هو ان يقال ان (السيد الجعفري) قد منح (مكرمة) لتلك المحافظة، حتى ولو لم تحصل تلك المحافظة على دينار واحد من تلك الـ(المكرمة السخية).
لكن المشكلة قد تكون ابعد من دعاية حكومية لمجلس الوزراء او احزاب السلطة. فالجمعية الوطنية هي الاخرى لم تكن عابئة بشكل واضح بهموم الوطن والمواطن. ورغم ان بعض اعضائها طرح بشكل استعراضي لافت مشاكل وشكاوى فئات معينة من الشعب، الا ان الجمعية لم تصدر، الا ما ندر، قرارا او قانونا يعمل على حل تلك المشاكل، او يحسن حياة الناس بشكل عام. وعدم الاكتراث هذا انعكس بالتأكيد على مستوى الرقابة التي تقوم بها الجميعة الوطنية على مؤسسات الدولة التنفيذية. وزادت الطين بلة المطاحنات والمشاحنات السياسية للكتل السياسية وشخوصها داخل الجمعية ومجلس الوزراء والهيئات الحكومية الاخرى. حتى لكأن الدولة تحولت الى منبر للتناحر السياسي، واصبح الشعب وسيلة لتحقيق المجد الشخصي. ولعل اقرب وصف لهذا الوضع هو (الفساد) بكافة اشكاله: السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الفكري. فلم يعد هناك من يرغب في مناقشة تلك الظواهر السلبية سواء على مستوى القيادة او المستوى الحزبي او المستوى الشعبي. فالكل يريد الحل الجاهز والحكومة المثالية دون ان ينظر الى ما يتوجب عليه ان يفعله.
ومن ناحية اخرى فقد اخذت عملية كتابة مسودة الدستور حيزا كبيرا من اهتمام الدولة. وهذا حق، ولكنه يجب ان لا يكون مبررا لتردي الاوضاع الامنية والسياسية والاقتصادية نتيجة الفساد الذي يضرب ارقاما قياسية. فليس هناك من فائدة في دستور الدولة اذا لم يتم التقيد به والعمل بموجبه. ومع انتشار مظاهر الفساد الاداري، لا يبدو ان هناك ارضية جيدة لتطبيق مباديء اي دستور مهما يكن متسامحا مع تلك الظاهرة.
في اواخر عهد مجلس الحكم السابق قرر اعضاؤه مكافئة انفسهم براتب تقاعدي مجز رغم انهم لم يستمروا في الخدمة العامة سوى بضعة اشهر. ولما جاء المجلس الوطني المؤقت لم يعمل على تغيير هذا القانون بل استفاد منه لمكافئة اعضائه الذين خدموا مدة اقل من مجلس الحكم. والاغرب من ذلك ان تقوم الجمعية الوطنية بنفس التصرف لمنح اعضائها تقاعدا مدى الحياة، رغم انها، بخلاف المجلسين السابقين، جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، وليس بالتسويات والتوافقات السياسية. ومن المعروف ان من يتصدى للخدمة العامة بالطرق الديمقراطية يجب ان يثبت انه لا يعمل لمصلحته الشخصية. ولكن تلك الجمعية سولت لنفسها ان تقوم بهذا التصرف المشين، غير مبالية بمعاناة الشعب نتيجة تردي الحالة الاقتصادية وفشل الدولة في توفير ابسط الخدمات للمواطنين. ليس هناك الا تفسير واحد، فاعضاء هذه الجمعية وضعوا منذ البداية مصلحتهم الخاصة فوق كل اعتبار مستغلين طموحات وآمال الشعب، كما اثبتت الوقائع في الاشهر العشرة الماضية. واذا كان النظام السابق قد تفنن في منح (المكرمات) فقد برع نظامنا الحالي في اخذها، وبقي الشعب في الحالتين متفرجا يحاول يستوعب ما يجري.

Tuesday, October 11, 2005

جهاد ضد المساجد!!

لا ادري ما الذي يجعل مسجد (ابن نما) في مدينة الحلة هدفا لعملية ارهابية. ولا اعرف لما ذا يكون أي مسجد هدفا لمثل تلك العملية. ولا استطيع ان اتصور ان يكون أي مكان عبادة، سواء كان مسجدا او حسينية او كنيسة او ما سواها، كيف يمكن ان تكون تلك الدور المقدسة اهدافا للتدمير والتخريب والقتل. ولا يمكنني ان افهم كيف يكون الجهاد لتحرير الوطن عن طريق تخريبه وانتهاك مقدساته وقتل ابناءه واستعباد شعبه تحت نير الارهاب والحقد والكراهية.
لا استطيع ان افهم كل ذلك لانني اتصور ان البشر ولدوا مع فطرة سليمة ترشدهم وتهديهم.. كما هدت فطرة النبي ابراهيم عليه السلام الى الايمان ب وجود الله تعالى وضرورة عبادته. تلك الفطرة التي ترفض اقدام قابيل على قتل اخيه، وتتعاطف مع هابيل المسالم الوديع الذي يرفض الاحتكام الى القوة وافناء الاخر. هذه هي معضلة الحياة، المسالمون تصيبهم نزوات المعتدين. و اذا كانت الحياة الى نهاية لا محالة، فهل ينتصر الحاقدون لانهم لا يحفلون بالحياة ؟ ام هل تنتصر الفضيلة التي تقدس الحياة مهما يكن قصرها؟ لم يكن قابيل واثقا من فعله، ولكن نفسه كانت حاقدة. ولم يكن هابيل ضعيفا، ولكن نفسه كانت سمحة. والمواجهة الابدية، ستبقى بين نفس خيرة تريد ل لفضيلة ان تعم الجميع، ونفس شريرة تسعد بحلول الظلام والجهل والرذيلة.
كما انني لا استطيع ان أتفهم اعلان (شيخ المجاهدين) عن قائمة اهدافه، التي تطول لتشمل (الشيعة) كشعب ومذهب. فاي جهاد ذلك الذي يبيح دم كل رجل وامرأة وشيخ وطفل ولدوا على هذا المذهب، كما ولد هو على مذهب ه. ذلك المذهب المتصلب والذي يرى الامور من زاوية ضيقة. فاي فضيلة يحملها هو؟ هل كان نصرانيا، او يهوديا، فاهتدى بآية ربانية الى مذهبه التكفيري ؟ ام أ نزل عليه وحي فصار على يقين مطلق؟ واذا لم يكن يحارب المذهب، بل اهله كونهم لا يفكرون بطريقته، وهو الذي يقض مضجعه احتلال الارض، ف هل تتحرر الارض بافسادها، واهلاك الحرث والنسل.. عجبا!!
وكيف يمكن ان يفتي أي امريء باباحة دماء الاخرين، وبجعلهم هدفا لعمليات اقل ما يقال عنها انها قذرة تشمئز منها النفوس وتقشعر لها الابدان. من اعطى له تلك السلطة، واتاح له ذلك المنبر. يا لسخرية القدر، اذ يصبح الهارب من وجه العدالة في بلده، والمطارد المحكوم، والمهدور الدم، يصبح قيما على العراقيين ومتحدثا باسمهم !! يعلن ببساطة ان الشيعة (متعاونون مع المحتل)، وهم لذلك هدف مباح. فمن هم هؤلاء الشيعة (المتعاونين)؟ هل هم الكسبة في سوق (الهرج)، ام العمال في (مسطر) الكاظمية؟ هل هم المصلين في حسينية (ابن نما)، ام من يتناول افطاره في مطعم (كباب اربيل)؟
يقول، لقد شاركوا في الانتخابات، وجاءوا بحكومة (عميلة) لل محتل. فماذا يفعلون؟ يقاطعون كل شيء وينتظرون ان تمطر السماء مقاومين انتحاريين يفنون (قوات الاحتلال) ؟ ام يربطون انفسهم باحزمة ناسفة ويعيثوا في الارض فسادا؟ اذا كانت هناك طريق سلمية فلماذا لا نسلكها، سيما ان المجتمع الدولي باجمعه يراقب كل ما يجري، فلماذا لا نمضي بعملية ديمقراطية تعيد الحقوق وتحرر الارض وتنهي الاحتلال؟ ولكنه لا يؤمن بالانتخابات ولا بالديمقراطية ولا بالحرية، فهو يؤمن فقط، كأي متسلط آخر، بنظرية القوة والفتك، ومن امتلكهما اصبح سلطانا، وحاكما و(اميرا للمؤمنين).
ثم من اين اتى بهذا اليقين الذي يخوله اغواء فئة ضالة لتنفيذ عملية انتحارية في وسط ابرياء لا حول لهم ولا قوة؟ هل صعد الى السماء فعلم، ام جاءه ملك ففهم؟ وهل كان اكثر من النبي ابراهيم عليه السلام يقينا، وقد طالب هذا النبي ربه بآية (ليطمئن قلبي)، فما هي آية ابو مصعب؟ لكنها نفسه المريضة الراغبة في رؤية الدم، والمستمتعة بآهات الثكالى وصرخات الاطفال.
ولكن مهلا.. فهل من يأتي (للجهاد) في العراق قد اعدم حيلة للجهاد في بلده؟ هل تحررت بلاده من المحتل والغاصب والمفسد؟ وهل ارسل اهل العراق يطلبون مقدم هؤلاء (المجاهدين)؟ فواعجبا.. يقدمون الينا بلا دعوة، وواجبهم في وطنهم اولى، ثم يعملون فينا تقتيلا وتشريدا لاننا لا نوافقهم. وواسفا لقد وجدوا مأوى يضمهم، والتف حولهم نفر يشجعهم، ظنا انهم بذلك يعيدو ن التوازن الى المشهد السياسي المختل بنظرهم.
لا يمكن ان يوصف الهجوم على مسجد ابن النما والمساجد الاخرى، الا بالارهاب المبني على الحقد.. كما لا يمكن ان يكون تهديد طائفة برمتها سوى غلو واسراف اعمى. والعمليات الموجهة ضد قوات الامن الوطني.. ليست الا افعال ا شائنة تهدف الى ال تخريب و ال ارهاب، وتعطيل مسيرة الحرية ومحاولات بائسة لجر البلاد الى حرب طائفية. لا يمكن ان تكون هناك افعال جهادية يرضاها الله ورسوله، صلوات الله عليه وآله، متمثلة بالقتل العشوائي، والتدمير والافساد. فقد قال سبحانه (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)، ولذلك كان الدين الاسلامي دين الرحمة والتسامح. وفي غير ساحة المعركة، لم نسمع ان المسلمين كانوا يمشون في الارض ويقتلون من يخالفهم، بل ينصحون ويرشدون ويهدون. وبالنصح والهداية، لا بالسيف والقهر، انتشر الاسلام في اقصى الارض وادناها.

Tuesday, October 04, 2005

لا خلاص على يد الاعداء

من الملاحظ ان قائمة الاهداف (المشروعة) لعناصر (المقاومة) اصبحت طويلة وذات تشعبات وارتباطات كثيرة. فلم تعد القوات المتعددة الجنسيات، والتي يفترض ان تكون هي الم قصد الرئيس لـ(المقاومة)، لم تعد تحظى بالكثير من الاهتمام منها. ولم يعد هدف انهاء الاحتلال هو ما يحرك تلك (المقاومة)، بل اصبح الهدف اوسع واشمل. ولغة الارقام يمكنها ان تقول ذلك بكل وضوح، فمقابل كل جندي امريكي قتل او جرح في العراق، كان هناك اكثر من مائة من الضحايا الابرياء، من الرجال والنساء والشيوخ والاطفال، الذي ن تصادف وجودهم في موقع هجوم (استشهادي)، او كانوا هم هدف ذلك الاعتداء.
فما هي الغاية اذن؟ في الظاهر يبدو ان هؤلاء (الجهاديين) يرغبون في تحرير العراق من الاحتلال، ولكن على طريقتهم الخاصة، لان الكل في العراق يسعى لهذا الهدف. غير ان الاغلبية (من كل المكونات الديمغرافية للشعب) تفضل ان تنجز هذا التحرير بعملية سياسية محكمة، وباشراف دولي يضمن حصول العراق على كامل استحقاقاته. ولكن هؤلاء (المقاومين) يريدون ان يقنعوا الرأي العام ان التحرير لا يكون الا بالقوة، ويتضمن معنى القوة هنا ممارسة القتل العشوائي حتى على المدنيين العزل، والفقراء الساعين وراء لقمة العيش.
وهم، مع ذلك، لا يقدم ون لنا بديلا ما. فاذا قررت القوات المتعددة الجنسيات الانسحاب من العراق خلال اسبوع او اثنين، فما هي الخطوة التالية؟ اذا كانت تلك (المقاومة) تملك برنامجا، فعليها ان تبادر الى عرضه الان، والا فما الفائدة من التحرير؟ ونحن نعرف ان من يقوم بمحاربة القوات الامريكية اليوم يحارب في نفس الوقت القوات العراقية، وهو يوجه لها الضربات اشد عدة مرات من تلك التي توجه للجيش الامريكي. فهل اذا انسحبت القوات الامريكية ستكف تلك (المقاومة) عن هذه الافعال؟ الارجح انها ستستمر وبشكل اكثر شدة وبأسا. وما ذلك الا لتحقيق غاية واحدة، الاستيلاء على السلطة.
لقد مرت على العراق خلال السنتين الماضيتين من الاحداث ما لا يمكن تصوره. واصبح وقع العنف اليومي شيئا عاديا في حياة الشعب العراقي، الذي تعود هذا العيش حتى قبل تخلصه من براثن الحكم الصدامي البغيض. لقد عاني هذا الشعب من الكبت و ال حرمان و ال اعتقالات و ال اعدامات، ومن الحروب والتشريد والتهجير والتفقير. واليوم يريد اعداء العراق ان يديموا تلك الفتن.. بل ويبتكروا المزيد منها، لان مصالحهم باتت مهددة بوجود عراق حر ديمقراطي. واذا كانت حكومتنا تفصح بين الحين والاخر عن تورط دول الجوار، فهي لم تأت بذلك من فراغ. اذ لاشك ان هناك قوى خارجية تدعمهم وتمولهم وتزودهم بالمال والسلاح والتخطيط، والعناصر المغرر بها.
لكن الغريب ان تتبنى الجماعات التي تدعي مقاومة المحتل اسلوب محاربة القوى الامنية الوطنية والعمل على اضعافها. والاغرب انها لا تجد غضاضة في مهاجمة المدنيين فقط لتظهر ارقام مرعبة على شاشات الفضائيات، يلحقها بيان تفاخري على مواقع الانترنت. ولو عاد هؤلاء الى تاريخ حركات المقاومة في العالم اجمع، وفي العالمين العربي والاسلامي خصوصا، لوجدوا انها كانت تقدس كل ما يتعلق بشعوبها وتحترم حقوقه وحرياته، ولا تعتدي عليها ابدا. فالمقاومة لابد ان تكون من نسيج المجتمع تأسى لأ ساه وتتفاعل معه، لا ان تكون هي سبب ذلك الأ سى.
وكلما طالت قائمة الاهداف لتلك الجماعات كلما ابتعدت عن الشعب، وفقدت المناصرين. فالعنف لايمكن ان يكون بديلا للحرية، والنظرة الضيقة المتعصبة لايمكن ان تكون هي نظرية الحكم. ومن يعتقد ان غالبية الشعب هم اعدا ء ه، لايمكن ان يكون محررهم ومخلصهم. وكان الاحرى بتلك الجماعات قراءة التاريخ بتمعن. فالطالبانيون فشلوا في الاحتفاظ بالسلطة في افغانستان لانهم فرضوا اسلوبهم التسقيطي على الشعب، وحكموا باشد ما يكون من تسلط وتفرد، رغم انهم اصلا كانوا حركة مقاومة للاجنبي المحتل (الاتحاد السوفيتي السابق). وهم استعْدوا الشعب عليهم، كما فعل صدام قبلهم، فلم يكن ممكنا بعد ذلك ان يكونوا مخلّصيه.
ان الشعب العراقي الصابر يدرك ما يدور اليوم من احداث، وما يحاك ضده في داهليز المخابرات الاجنبية. ولن يستسلم ابدا لرغبة جماعات تمارس شتى انواع الارهاب، تحت مسميات الجهاد والمقاومة، لانه يعلم جيدا ان السماح لهم باخذ زمام المبادرة سوف يجعل كافة افراده عبيدا وادوات بيد تلك الفئة الضالة والمتعطشة للسلطة. وكما قال الشعب كلمته في يوم الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني الماضي، فانه سيهب ليقول كلمته في يوم الاستفتاء على الدستور في الخامس عشر من تشرين الاول المقبل. ومهما تكن نتيجة الاستفتاء، فانها ستكون محاورة وطنية ديمقراطية، لا تسقط الأخر ولا تفرض عليه ما لا يريده. وحتى لو اضطررنا للعودة الى المربع الاول، فقد حققنا تقدما مهما. لقد بدأنا نتعلم الحوار عبر صناديق الاقتراع، وقبلها على طاولة المفاوضات وفي اروقة المجالس المنتخبة.. لا بطريق العبوات الناسفة والاسلحة الاوتوماتيكية والسيارات المفخخة. واذا كان من خلاص فلن يكون ابدا على يد اولئك الذين يعلنون نهارا جهارا، بالقول والفعل، انهم اعداء للشعب.

Tuesday, September 27, 2005

الاقتصاد عنصر الوحدة الاهم

يتحدث الكثير من الناس عن امكانية وقوع الحرب الاهلية في العراق، ويصرح المسؤولون عن كونها تزحف اليه شيئا فشيئا، بينما يعتقد البعض انها واقعة فعلا الان، وان ما يحصل من خلل امني فاضح انما هو دلالة على ان البلد في حالة حرب اهلية حقيقية.
والواقع ان العراق، على امتداد تاريخه، لم يشهد حربا اهلية رغم التنوع الطائفي والعرقي، ورغم التعددية السياسية والدينية فيه. ربما كان السبب في ذلك هو طبيعة النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلد، والذي اوجد حالة من الالفة وخلق اواصر ثقافية واجتماعية وحتى عائلية وحدته، وجعلت المصاعب التي يواجهها مشاكل وطنية وان عانى منها جزءا منه فقط.
ومثل هذا النسيج لا يمكن ان يمزق او تقطع اوصاله الا اذا تمت اذابة اواصره التي عملت على ترابطه لقرون عديدة من الزمن. فاذا تمعنا في هذه الاواصر وجدنا انها اقيمت على وحدة الارض، ووحدة المصالح، ووحدة اللغة والثقافة المشتركة، واخيرا وحدة الاعداء التاريخيين. وليس بين هذه الاواصر وحدة الدين والعقيدة. فلقد تعلم العراقيون منذ القدم، انهم اذا ارادوا ان يتعايشوا بسلام بينهم فيجب ان يتمتعوا بتسامح ديني وبقبول لمعتقد الاخر وعدم السعي لنشر فكر او معتقد على حساب اخر.
ان موقع العراق الجغرافي له اهمية من ناحية الحفاظ على وحدته. فشماله محاذٍ لاوربا عن طريق الدولة المسلمة-السنية تركيا، وشرقه محاذٍ لاسيا عن طريق الدولة المسلمة-الشيعية ايران، وغربه محاذ لمجموعة الدول العربية المسلمة-السنية. وهكذا ببساطة نجد ثلاث قوميات محيطة بالعراق مقابل مذهبين لدين واحد. ولو تصورنا انقسام العراق الى اجزاء –لاسمح الله- فمن الواضح ان تأثيرات تلك القوميات ستختلط في العراق مع تأثيرات المذاهب. واذا حدث وتفتت الدولة فستتعرض جميع الدول المحيطة بالعراق الى اغراء التدخل. خاصة اذا ادخلت الثروات الطبيعية ضمن المعادلة الاقليمية.
ومع ذلك، فان هذا الموقع هو الذي منع تفتت العراق منذ امد بعيد. حيث ان وحدة الشعب الاقتصادية وتشابك المصالح داخل الوطن بما يخدم عموم البلد دفع ابناءه الى طرح الاختلاف جانبا والتركيز على العوامل المشتركة، والمصلحة الوطنية العليا. ذلك ان العراقيين ادركوا انهم انتقسموا الى اجزاء، فلن تكون هناك دولة اسمها (العراق) بل ستلتحق كل فئة باحدى الجارات النهمة لابتلاع اراضيه. ان اخر ما يتمناه اهالي الموصل ان يصبحوا ولاية تركية، كما ان اهالي البصرة يرفضون ان يتحولوا الى اقليم ايراني. وغرب العراق ليس سوريا او اردنيا. واكراد العراق ليسوا امة منفصلة لا تمتلك جذورا مع الوطن، وان كانت لهم خصوصية لا قومية تنكر.
في بداية شهر شباط يبدأ محصول الطماطم بالدخول الى اسواق المحافظات كافة قادما من البصرة. وخلال بضعة اسابيع تحل طماطم النجف محل تلك البصرية، وبعد اسابيع اخرى نجد طماطم كركوك هي التي لها اليد الطولى في الاسواق. ويعلم العراقيون انهم بغير البلد الواحد لن يتمكنوا ابدا من ايجاد مثل هذا التبادل التجاري الذي يمتد ليشمل العشرات من المحاصيل الزراعية، والمئات من المنتجات المصنعة محليا او مستوردة من مناشيء مختلفة. وقد نشأت الاسواق في المدن العراقية وانتظمت خطوط التجارة على اساس هذا التنقل الحر في البضائع والمنتوجات. وشكل مجاورة بعض المحافظات لدول معينة علاقات تجارية مع تلك الدول بما يعود بالنفع على جميع المحافظات الاخرى.
ولكن اذا استمر التهديد الامني للطرق التجارية ضمن العراق الواحد، واذا استمر ضمور الحركة الاقتصادية مع الدول المجاورة، فلربما لن يكون عنصر التكامل الاقتصادي، او التبادل التجاري هو معيار الوحدة الاهم. ومع الاخذ بنظر الاعتبار محاولات التدخل الخارجي في خلق فتنة طائفية داخلية لافشال المشروع الديمقراطي في العراق، واستعمال الدين في الخطاب الوطني مع العلم بعدم توحد الاتجاه المذهبي، فان عناصر الوحدة قد تكون تعرضت جميعها الى اختبار صعب. خاصة اذا اضفنا اليها غياب عنصر التوحد في مواجهة الغزو الخارجي، فقد شهدنا حالات من التدخل السافر لدول الجوار في الشأن الداخلي ولكن كان هناك من بين العراقيين (وحتى من المسؤوليين الحكوميين) من يبرر مثل هذه الافعال، او ينفيها حتى مع قيام الدليل. وما ذلك الا لتغطية انتماء هذا الشخص او المسؤول لتلك الدولة. ولا نشك في انه لن يأل جهدا للمساهمة في اخضاع هذه المنطقة او تلك لنفوذ الدولة التي يواليها.
لذلك فان خطر الحرب الاهلية سيكون حقيقيا اذا لم تتخذ الدولة اجراءات حقيقة لتشجيع التبادل التجاري، وتنمية القطاعين الصناعي والزراعي ليكونا عونا في بناء اقتصاد وطني يكون هو الاساس الحقيقي للوحدة الوطنية. وقد لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي خلال فترة وجيزة، ولكن السعي من اجل التغيير يمكن لوحده ان يمنح العراقيين الصبر على القهر اليومي في حياتهم، ويعزز امالهم في غد افضل.

Tuesday, September 20, 2005

ماذا لو رفض الدستور؟

يتساءل البعض عن العواقب الناتجة عن رفض الدستور، سواء بالتصويت العام بان لا يحصل على الاغلبية في عموم العراق، او برفض ثلاثة محافظات باغلبية الثلثين. فحسب قانون ادارة الدولة، في الفقرة (هـ) من المادة 61: (اذا رفض الاستفتاء مسودة الدستور الدائم، تحل الجمعية الوطنية، وتجري الانتخابات لجمعية وطنية جديدة في موعد اقصاه 15 كانون الاول 2005. ان الجمعية الوطنية والحكومة العراقية الانتقالية الجديدتين ستتوليان عندئذ مهامهما في موعد اقصاه 31 كانون الاول 2005، وستستمران في العمل وفقا لهذا القانون، الا ان المواعيد النهائية لصياغة المسودة الجديدة قد تتغير من اجل وضع دستور دائم لمدة لا تتجاوز سنة واحدة. وسيعهد للجمعية الوطنية الجديدة كتابة مسودة لدستور دائم آخر).
وهذا يعني ان موعد الانتخابات في منتصف كانون الاول 2005 سيبقى كما هو، ولكن سيصار الى انتخاب جمعية انتقالية جديدة تكتب الدستور، بدلا من الجمعية الحالية. والواقع ان من يرفض الدستور لايجد غضاضة في هذا الاجراء، سيما وانه سيتمكن من المشاركة بقوة في الانتخابات وسيحصل على مقاعد برلمانية تعطي له الحق في ان يبدي رأيه في كتابة الدستور مستندا الى قاعدة شعبية اوسع. والواضح ان ممثلي الطائفة السنية في العراق يشعرون بالتهميش نتيجة لغايبهم او تغييبهم عن الانتخابات الماضية، التي افرزت (اغلبية شيعية) كتبت مسودة الدستور، كما يعتقدون، بنَفسٍ طائفي، وفرضت رأيها في النهاية ناقضة التزامها الابتدائي مع هؤلاء الممثلين بان تكون العملية توافقية.
ومن جانب اخر، اذا لم يستطع ممثلو العرب السنة من التحشيد اللازم لرفض الدستور، فعلى الاغلب انهم سيشاركون في الانتخابات القادمة في كل الاحوال. ذلك انهم تعلموا الدرس نتيجة غيابهم في المرة الماضية.
ولكن.. هل سيتمكن مقاطعو الانتخابات الماضية من المشاركة في الانتخابات القادمة، وقبلها الاستفتاء على الدستور؟ لقد كان السبب الرئيس لتغيبهم في المرة الماضية هو اضطراب مناطقهم والتهديد الجدي للارهاب فيها، فقد كان مجرد التصويت يعرض المواطن للقتل. وقد اشتركت فعلا قوائم تمثل العرب السنة، مثل قائمة عدنان الباجة جي وقائمة غازي الياور وقائمة مشعان الجبوري وغيرها. ولكن نظرا لطبيعة النظام الانتخابي الذي اعتمد العراق منطقة واحدة فانهم لم يستطيعوا الحصول الا على مقاعد برلمانية قليلة، او لا شيء على الاطلاق. وحتى الذين انسحبوا من الانتخابات لم يكونوا ضد فكرة الانتخابات، وانما طالبوا فقط بتأجيلها، اوتعديل النظام الانتخابي.
والان، طالما كانت نتائج الاستفتاء تعتمد على المحافظات بنفس القدر الذي تعتمد فيه على جميع الوطن، فان اية مشاركة ستكون مؤثرة. فاذا استطاعت المحافظات الغربية ان تحشد لمشاركة كثيفة، فهناك احتمال اسقاط الدستور في التصويت العام، ذلك ان هناك بعض الاطراف في اوساط الطوائف الاخرى ليست مرتاحة جدا لهذا الدستور.
اما اذا كانت المشاركة ضعيفة، فان قانون ادارة الدولة لم يحدد العدد الادنى للناخبين، وبالتالي ازدادت فرصة اسقاط الدستور عن طريق ثلثي ثلاث محافظات، حيث ان من يشارك في الاستفتاء سيحرص على ان تكون مشاركته فاعلة نظرا للمخاطر المحدقة. ومعنى المشاركة الفاعلة قد يكون بالتصويت بـ(نعم) او(لا) حسب التثقيف الذي سيجري خلال الفترة التالية.
ان العملية الانتخابية الماضية لم ترق الى مستوى توحيد الشعب العراقي، رغم ان هذه الوحدة كانت ضرورية للتمهيد لكتابة الدستور الدائم. وقد حاولت الاطراف المشاركة والفائزة في الانتخابات ان تمد يدها الى اولئك الذي لم يتسن لهم المشاركة. ولكن ليس من يملك صوتا في البرلمان كمن لا يملك. وقد تحولت الاستحقاقات الوطنية الى استحقاقات انتخابية، ونتيجة لذلك، اصبحت كتابة الدستور استحقاقا انتخابيا، كما هو واضح من تشكيلة اللجنة الدستورية.
ان رفض الدستور في الاستفتاء قد يكون امرا سيئا، ولكن علينا ان نتوقع هذا الامر على كل حال. ان الاكثر سوءا من ذلك هو ان يبادر البعض الى رفض هذا الرفض، وهو ما سيؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها. ان كتابة الدستور هي عملية معقدة وتتضمن تسويات وتنازلات. ونحن نعلم انها لم تأخذ الوقت الكافي، لذلك يجب ان لا نفاجأ بكبوة تعيدنا الى المربع الاول. ولكن علينا ان نبدأ من جديد، في تلك الحالة، بانفتاح اكثر وبروح وطنية اعلى.
على انني اتمنى مخلصا ان يجتاز الدستور امتحان الاستفتاء، وان تتقدم العملية السياسية خطوة اخرى للامام. حيث ان دستورا ناقصا، يمكن تعديله لاحقا، خير من لا دستور. والبدء من جديد قد يكون مفيدا، ولكنه قد يكون هدرا للوقت. وما احوجنا الى كل ساعة وكل يوم في الوقت الراهن.

Tuesday, September 13, 2005

فاجعة الجسر.. والتبرعات

لعل حادث التدافع على جسر الائمة اثناء زيارة الامام موسى الكاظم (ع)، والذي اودى بحياة المئات من العراقيين واصابة الكثيرين غيرهم، لعل هذا الحادث المأساوي هو اسوأ حادث يقع في يوم واحد في تاريخ العراق، وليس فقط في فترة ما بعد التغيير. ان عدد الضحايا وصل الى رقم مرعب حقا، وقد كان يمكن ان يتسبب في سقوط الحكومة، او على الاقل بعض الوزراء المسؤولين بصورة مباشرة عن حماية الشعب. ولكن لم يحدث شيئا من ذلك نظرا لظروف المرحلة الانتقالية، والشعور بان كل شيء هو مؤقت ريثما ينجز الدستور وتنتخب الحكومة (الدائمية) بموجبه.
واللافت في هذه الحادثة الاليمة حصول حالة من التوحد بين اطياف النسيج العراقي من خلال مساهمة الاخوة من السنة في انقاذ المصابين، او التبرع بالدم، وما شابه ذلك. هذه الوحدة الوطنية ربما نحن بامس الحاجة اليها الان بعد ذلك السجال الطويل، والجدال العنيف، بين الاطراف المتنازعة حول فقرات الدستور المختلفة. وفي لحظة خلنا اننا لن نعود شعبا واحدا، بل فئات وقوميات وطوائف متناحرة تسعى لتحقيق مآربها، بغض النظر عن المصلحة الوطنية. ومع المحاولات المستمرة لجر العراق الى حرب طائفية، اعتقد الكثيرون انها واقعة لا محالة، وانها مسألة وقت لا اكثر. ولكن جاءنا اختبار الجسر ليضعنا امام السؤال: هل نحن شعب واحد؟ واجاب الشعب هذه المرة بنعم.
وتوطدت هذه الاجابة التي تدل على عمق الوحدة الوطنية مع بدء حملة جمع اللتبرعات لضحايا الفاجعة قل نظيرها. لقد كان موقفا مشرفا من كبار المسؤولين ان يكونوا على رأس المتبرعين وبارقام ليست بالهينة. وقد شعر ابناء الشعب العراقي انهم الان اكثر امانا، بعد ان ظنوا ان همّ المسؤولين في الدولة يتمثل باكتناز اكبر رقم ممكن في الحسابات المصرفية قبل ان يودعوا المنصب. ولكن هذه الحملة بدأت تأخذ منحى اخر بعد ان اصدر بعض الوزراء امرا يقضي باستقطاع راتب يوم (او اكثر) من جميع موظفي وزارته. ورغم ان هذا الاستقطاع قد لا يشكل عبئا حقيقيا على الموظف، لكن حقيقة فرض التبرع على الموظف يعيد الى الاذهان ممارسات النظام البائد، والتي ارهقت في النهاية معظم شرائح الشعب.
ومن ناحية اخرى، فقد اظهرت الرغبة الشديدة في التبرع لضحايا يوم الجسر المشؤوم ان التبرع (الطوعي) بالمال هو شيء ايجابي لا يتنافى مع كون العراق بلد غني يستطيع تقديم اي تعويض للشعب. فالمشاركة في الحدث تجعل الشعب كله في خندق المواجهة، بدلا من ان يكون متفرجا لا حول له ولا قوة. وقد كنا نأمل في حالة مشابهة منذ امد بعيد، ليست بالضرورة ان تكون بالتبرع من اجل ضحايا حادث ما، ولكن من اجل تحسين خدمة في مكان يكون بامس الحاجة الى ذلك. وهذا النظام معمول به في مختلف دول العالم، خصوصا الغنية منها، حينما لا تتمكن السلطات المركزية او المحلية من تقديم خدمة ما في الوقت المناسب. وهذا لا يعني اعفاء الدولة من مسؤولياتها، ولكن يعني خلق حالة من التوازن، بين الحاجة الانية وقدرة الدولة على المدى الطويل.
واخيرا، فان هول الفاجعة يمنع الكثيرين من التطرق الى كيفية توزيع الاموال التي يتم التبرع بها. اذ ليس من المعقول ان يتم الاعلان عن التبرعات، ثم ينتهي الامر عند هذا الحد. يجب تشكيل لجنة مشتركة بين الدولة واهالي الضحايا لجمع وتسجيل وايداع تلك التبرعات. كما تقوم هذه اللجنة بحصر الضحايا، من المتوفين والجرحى والذين اصيبوا بعاهة دائمة وغير ذلك، تمهيدا لمنح كل منهم استحقاقه. وقد تصل التبرعات، نتيجة الدعاية المكثفة والرغبة في المشاركة، الى ارقام كبيرة. وهذا امر جيد، ولكن ليس بالضرورة ان يقدم بالكامل الى اهالي الضحايا. فيمكن ان يحدد سقف مناسب للتعويض الفردي، ثم يصار الى تخصيص المتبقي في تطوير البنية التحتية في المنطقة التي يقطنوها، او توفير فرص عمل لاقربائهم، او انشاء مشاريع خدمية في مناطقهم.. الخ. لقد كانت الكارثة اكبر من التصور، وعلينا الان ان نوسع تصورنا، لمنع حصول كوارث مشابهة في المستقبل –لاسمح الله– بان نخصص جزءا من هذه التبرعات لتوظيف وتدريب كادر متخصص في تنظيم الزيارات والمواسم الدينية.

Saturday, August 20, 2005

دولة شيعية ام شيعة دولية؟

اعتبر كثير من المتتبعين لعملية كتابة الدستور وما واكبها من احداث ان تصريحات السيد عبد العزيز الحكيم مفاجأة كبيرة في وقت غير مناسب تماما لاية مفاجأة. فقد طالب رئيس كتلة الائتلاف الحائزة على اكبر مقاعد الجمعية الوطنية، مخاطبا حشدا من اهالي النجف، باقامة (فيدرالية لوسط وجنوب العراق) باعتبارها (حق الشيعة المضطهدين لعقود طويلة). كما اكد هادي العامري الامين العام لمنظمة بدر التابعة الى المجلس الاعلى، الذي يرأسه الحكيم، ان (على الشيعة المضي قدما في إقامة فدرالية في الجنوب وإلا سيندمون على ذلك). وقد اعتبرت هذه التصريحات مفاجأة حتى لاكثر المطالبين بالفيدرالية، مثل محمود عثمان من لائحة التحالف الكردي.
ان المفاجأة لا تكمن فقط في كون الفيدرالية محط خلاف ضمن لجنة كتابة الدستور، وهي من الامور التي ربما لن تحسم في هذه المرحلة، وانما ايضا في طرح الموضوع بشكل يوحي ان هناك (مظلومية) تقع حاليا على مناطق الوسط والجنوب، والتي لن ترفع الا بعد اقرار هذا الاقليم بشكل شبه مستقل. وبديهي ان منطلق الحكيم في ذلك يعود الى سنوات الحكم البائد، والى عزوف ابناء هذه المناطق عن الحياة السياسية بعد ان رفض المرجع الديني المشاركة فيها حينما اتيحت لهم الفرصة.
ولكن الاحوال تغيرت، وغدا ابناء الوسط والجنوب، الذين يتمذهب معظمهم بالمذهب الجعفري، اغلبية برلمان منتخب ديمقراطيا، وهم يكتبون دستورا للعراق الواحد بمختلف اطيافه ومذاهبه، والذي يتوقع ان يكون ضمانة لحقوق كل طائفة، وخصوصا الاقليات، فما بالك بالاغلبية؟ لماذا يعتقد الحكيم واتباعه ان اقامة الفيدرالية ستدرأ خطر اضطهاد الشيعة من جديد؟ اليس في ذلك ايحاء انه غير واثق من تحقيق اغلبية برلمانية قادمة بحيث ينقلب السحر على الساحر؟
ان الانتخابات الديمقراطية ستعطي على الدوام اغلبية (شيعية) نظرا للواقع الديموغرافي، ولشكل القوانين الانتخابية المقترحة. ولكن مخاوف الحكيم هي في اغلبية تدين بـ(التشيع) مذهبا للعبادة، يقف على قدم المساواة مع أي مذهب اسلامي اخر، بل ومع أي مذهب للديانات الاخرى. هذه الاغلبية ليست (شيعية) في توجهاتها وسياساتها، بل (عراقية) تنظر الى الجزء الصغير بنفس العين التي تنظر بها الى الجزء الاكبر. فقوة العراق تكمن في تنوعه، ولو كان على شاكلة واحدة لكان حاله اليوم مختلفا كثيرا. والتنوع يعني التكامل، والاختلاف يعني قبول الاخر. والعراقيون خلال تاريخهم قبلوا هذه التحديات واثبتوا انهم فوق النحل والملل.
ان دعوة الحكيم هي محض رغبة شخصية، ودعاية انتخابية مبكرة، واستباق لمفاوضات حثيثة من اجل انجاز وثيقة الدستور المهمة. وبامكان الحكيم ان يطرح رأيه على اللجنة الدستورية، لكنه لا يستطيع ان يفرض رأيه بتأليب الرأي العام، الذي لم يفهم بعد معنى الفيدرالية، والذي يتشكك في دوافع الاكراد بالاصرار عليها، ثم يجد نفسه منقادا اليها تحت وطأة الدعاية السياسية-الدينية.
لكن البعض يعتقد ان الامر قد يكون ابعد من ذلك، من خلال محاولة اضفاء الصفة الدينية-المذهبية على مناطق العراق المختلفة، وان العراق الواحد الذي تذوب فيه الطائفة سوف يكون شوكة في جنب الانظمة الطائفية المجاورة، والتي تريد ان تجعل العراق حليفا استراتيجا ومنطقة هيمنة تشاركها النظرة المذهبية الضيقة. هذه الانظمة تريد اقناع شعوبها، اعلاميا على الاقل، بان دولة الطائفة خير من لا دولة. واذا كان الفهم العام للفيدرالية هو التقسيم، فان تكريس هذا الفهم بهذه الطريقة هو امر مرفوض، حتى وان صدر عن اكثر الناس حصولا على الاصوات. وقد حدد قانون ادارة الدولة عدد المحافظات التي تنظم في فيدرالية بثلاثة كحد اقصى، وهو تحديد عادل ومتوازن، ولا يعطي للفيدرالية الا مفهومها الصحيح من اقامة نظم لا مركزية تضمن توفير خدمات افضل لابنائها، وليس فصل سياسي قائم على الانتماء العرقي او المذهبي كما يقترح علينا سماحة السيد الحكيم.

Monday, August 08, 2005

الحكومة والقدرة على التغيير

يصرح العديد من العراقيين اليوم عن خيبة املهم في الحكومة الحالية معتبرين اداءها ضعيفا وقاصرا، وانها لم تول مسألة الامن اولوية خاصة بدليل تكاثر العمليات المسلحة وتنوع اهدافها بشكل فاق من ناحية التأثير والعدد مثيلاتها في عهد الحكومة السابقة او حتى تحت سلطة الحاكم المدني الامريكي. ولعل ضعف الاداء الحكومي هذا كان متوقعا في مثل هذه الظروف، وربما يرد بعضهم ان الحكومة السابقة هي السبب في هذا التردي الامني لعدم تعاملها بحزم كاف مع المسلحين وترددها ازاء العصيان المدني الذي شهدته بعض المحافظات العراقية.
والواقع انه لا يمكن الجزم بان الحالة الامنية كانت ستتحسن لو بقيت حكومة اياد علاوي في السلطة. ولكن توقع مثل ذلك الامر لن يكون خياليا كذلك. اذ ان المعروف ان الفترات الانتقالية هي اسوأ الفترات في الحكم، ليس فقط لكون الصلاحيات مقيدة، ولكن ايضا لعدم رغبة الحكومة المنصرفة في اتخاذ قرار تتحمله الحكومة المقبلة على الرغم منها. كما ان اتخاذ الحكومة الجديدة لمواقعها يستغرق وقتا يسجل لصالح المتمردين في نهاية الامر.
لقد تحققت بعض الانجازات الامنية في عهد علاوي رغم قصر فترة حكومته، ولكن حكومة الجعفري، التي توافرت على موارد اكثر وصلاحيات اكبر ودعم شعبي غير مسبوق فشلت في تحقيق اي نصر حقيقي. وبقي الطنين الاعلامي لعمليات البرق والرعد والسيف وغيرها يقابله تزايد في العمليات المسلحة ضد الشرطة والجيش والمدنيين، وبالطبع ضد القوات المتعددة الجنسيات.
وبقي المواطن يعاني من نفس الازمات، من نقص البنزين بسبب تخريب صهاريج النفط، الى نقص الكهرباء بسبب تخريب منشآت التوليد والنقل. وبقيت الحصة التموينية تراوح مكانها، ولم يعلن عن مشروع واحد رئيسي لامتصاص البطالة وتطوير الاقتصاد. ولست ادري لماذا اعتقد الناس ان الانتخابات ستأتي لهم بالحل السحري لكل مشاكلهم، ولكني افترض ان من فاز فيها يتحمل مسؤولية تحقيق بعض الطموحات الوطنية على الاقل.
ومع ان اهم مسألة تواجه الحكومة الحالية هي كتابة واقرار الدستور الدائم، الا اننا نرى ان الحكومة توجه اقل عناية لهذه العملية المهمة. نعم، تعرض الفضائيات اعلانات باهضة الثمن للحث على المشاركة في كتابة الدستور، وان الجمعية الوطنية شكلت اللجنة الدستورية وتدعو من قاطع الانتخابات الى المشاركة فيها. ولكننا لا نلمس اي تقدم في نفس عملية كتابة الدستور سوى ما يصرح علينا من نسب مئوية، تذكرنا بنسب انجاز المقاولين لاعمالهم، والتي يستحقون عليها دفعات نقدية.
ان التغيير لم يكن يوما مسألة هينة، وفي النظام الديمقراطي ليس هناك مجال للتجربة. فمن يتصدى للحكم ليس فقط من يحصل على اغلبية الاصوات، ولكن الحاصل ايضا على افضل المؤهلات، وعلى اكثر دعم من القاعدة الاقتصادية للنظام. وفي حالة العراق الفريدة،غاب التقييم العام للمؤهلات، واستغني عن الدعم الاقتصادي الحر (بسبب انعدامه اصلا) وبالتالي فقد وصلت الحكومة الحالية الى السلطة بطريق الاصوات فقط. ونحن لا نقول انهم غير مؤهلين علميا، فمن بينهم حملة شهادات عليا، ولكن هناك قصور في التأهيل السياسي والاقتصادي انعكس بشكل سلبي على اداء الحكومة ككل. ولعل هذا الدرس سيكون مفيدا في الانتخابات القادمة لكل من الناخب والمرشح على حد سواء.

Sunday, July 03, 2005

لا للتمديد

صرح السيد رئيس الوزراء الدكتور ابراهيم الجعفري، من واشنطن، ان احلال الامن في العراق يحتاج الى فترة تمتد الى عامين. وبقدر ما ينطوي عليه هذا التصريح من عدم التفاؤل، الا ان الكثيرين يعتقدون ان حتى هذه الفترة غير كافية، وان استتباب الامن ربما يستغرق فترة اطول بكثير.
والواقع ان اي توقع للفترة الزمنية غير وارد بالمرة. فما يحدث في العراق حرب حقيقية متعددة الاطراف، وليست هناك رؤية واضحة لاهداف الاطراف المتصارعة. وطالما كان الامر كذلك، فليس بمقدور احد التبؤ بما يمكن ان يكون خلال اية فترة زمنية.
ولكن تصريح رئيس الوزراء مردود ايضا بوعوده الانتخابية. فكيف يخوض انتخابات تحت شعار توفير الامن للمواطنين ثم يصرح بعجزه عن ذلك خلال فترته التي لن تمتد اكثر بضعة اشهر. ان مثل هذا التصريح كفيل باسقاط الحكومة، لو لم يكن البرلمان حليفا له. وكل ما يمكن ان نستنتجه، ان الدكتور الجعفري يفكر في التمديد، اولا لكتابة الدستور بحجة عدم موائمة الظروف الامنية، وثانيا لبقائه في المنصب لحين تحقيق هذا الانجاز.
لقد حققت قائمة الائتلاف التي ينتمي اليها الجعفري فوزا ساحقا في الانتخابات الاخيرة، ومهدت الطريق اليه لتولي شؤون البلد. وكانت حملتها الانتخابية تركز على ضمان كتابة الدستور ضمن الوقت المحدد، والمسؤولية التاريخية التي تتحملها تلك القائمة والدكتور الجعفري هو ان تفي بوعودها. خصوصا بعد كل ما حصل من تأخير، سواء بقصد او بغير قصد، في انعقاد الجمعية، وتشكيل الحكومة، واخيرا تشكيل اللجنة الدستورية.
وليس بمستغرب ان يظهر البعض امتعاضه من اداء الحكومة الحالية، التي لا يجيد رئيسها سوى الكلام المنمق في المنابر الدولية. فعلى الارض لا يحدث تقدم في اي صعيد، سواء الامني او السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي او غيرها. وعجز الحكومة قد يُعزى جزئيا الى شراسة المعركة مع الارهاب، ولكن ذلك هو ما كان عليها ان تتوقعه اصلا. فالخلل الامني هو الذي دفع الناس للذهاب الى صنايق الاقتراع، متحدين الموت والتفجير، املا في حكومة تغير وضعهم.
ولكن للاسف، لم تسفر تلك الانتخابات البطولية الا عن اضفاء صفة الشرعية الى السلطة، دون ان تتمكن تلك السلطة من استخدام موارها بالشكل الذي يسهل حياة المواطن، او يوفر له ابسط شروط الحياة الكريمة: الامن. كما اننا لا نجدها تسعى بشكل جدي لمثل هذه الغاية. وعملية البرق اكبر مصداق على ذلك، ففي حين يصرح المسؤولون عن نجاحات باهرة، نجد ان مستوى العمليات المسلحة لم يتغير سواء في بغداد او في المحافظات الاخرى.
لكن الجعفري مع ذلك يصرح بان تلك العمليات بدأت تتقلص واصبحت اقل من السابق. فكيف نصدق ذلك؟ وها هم المسلحين يجوبون ارجاء بغداد ويصطادون مسؤولين حكوميين ورجال دين ورجال امن وصحفيين وحتى اناس عاديين لا حول لهم ولا قوة. وهذه المسرحية اليومية من السيارات المفخخة والانتحاريين تفرض نفسها على نشرات الاخبار بحث اصبحت تذاع في اخر النشرة لكونها (عادية). واذا احتجت حكومة الجعفري انها لا تملك وقتا كافيا، فعليها ان تفعل ما فعلت حكومة علاوي من قبل، بالالتزام بقانون ادارة الدولة، وتسهيل كتابة الدستور والاستفتاء عليه ضمن الاطر الزمنية المحددة.. وحذار من اية محاول للتمديد.

Sunday, June 26, 2005

محاكمة متأخرة.. ام لا محاكمة؟

في لقاء مع قناة العراقية اكدت وزيرة الخارجية الامريكية كونداليسا رايز ان الولايات المتحدة تريد ان ترى صدام حسين يواجه محاكم عادلة، وان دور الولايات المتحدة سيكون مساندا واستشاريا فقط، وانها لن تتدخل في مسيرة المحاكمة او القرار الصادر، حتى وان كان باعدام صدام لانه “قرار عراقي خالص” على حد تعبيرها.
والواقع ان تلك المحاكمة قد اخذت اكثر من الحيز الذي تستحقه، فاثبات الذنب ليس عسيرا مع شخص مثل صدام، مارس كل انواع التعذيب والقهر والتشريد والتقتيل ضد شعبه، وخاض حروبا عدوانية ضد جيرانه، وتحدى المجتمع الدولي في غير مرة. والحكم بالاعدام قطعا سيصدر لعدة مرات بحقه، كما الزبانية الاخرين الذين شاركوه تلك الجرائم.
واقول انها اخذت وقتا كثيرا لانها كان يمكن اجراؤها قبل فترة طويلة، وربما كان الوقت الامثل هو خلال اسبوع او اثنين من القاء القبض عليه، فان مجرد بقاء صدام حيا، وان كان في زنزانة، هو خيبة امل للشعب العراقي. ان الاحتجاج بالتحضير لمحاكمة عادلة هو امر يبعث على السخرية. فلو كان صدام قتل شخصا واحدا، لكان اثبت ذلك عليه بعد مضي هذه الفترة على اعتقاله. على ان الولايات المتحدة ادانه فعلا منذ قررت غزو العراق ل(تحرير) الشعب العراقي من قبضته. لقد كان بالامكان محاكمة صدام بموجب القانون العراقي، لتسببه في الويلات والمصائب التي حلت بالشعب العراقي منذ اعتلى سدة الحكم وقام بتصفية معارضيه علنا. او يمكن محاكمته عسكريا لفراره من ساحة المعركة، واعدامه نتيجة هذا الفعل استنادا للقانون الذي سنه بنفسه. او محاكمته شرعيا لدأبه على قتل علماء الدين الافاضل، والمدافعين عنه، كلما عنّ له ذلك. ولم يكن لينجو من محاكمة عشائرية لما تسبب به من اذلال لشيوخها وفتيانها، وعبثه غير المبرر بتقاليدها وانسابها، وتسييده لاراذلها على اشرافها.
لقد كان بالامكان محاكمة صدام دوليا ايضا، ابتداء من استخدامه الاسلحة الكيمياوية ضد الاكراد عام 1989. وغزوه الكويت عام 1990، وتحديه المجتمع الدولي طيلة الفترة التي تلت ذلك، خصوصا وان مجلس الامن قد ادان جميع هذه الافعال بقائمة طويلة من القرارات الملزمة. ولو اتيح للشعب العراقي ان يحاكمه بنفسه لقاضى كل فرد فيه هذا الحاكم القاسي، فلم يخلُ بيتٌ من ظلمه وشره، حتى اقرب المقربين اليه.
ومن المعروف ان بعض كبار رجال العصابات في الولايات المتحدة والذين ارتكبوا جرائم عديدة ضد الافراد والمجتمع، قد تعذر اثبات ايا من تلك الجرائم بحقهم. ولكنهم مع ذلك ادينوا بجرائم مثل التهرب من دفع الضرائب. فرغم كل شيء فقد دفعوا ثمن ما عن جرائمهم. ولكننا نرى صدام يعامل كمتهم له حقوق يجب ان تصان، ولا ندري متى سيتم توجيه الاتهامات بحقه ومحاكمته اصوليا لتنتهي هذه الصفحة السوداء في تاريخ العراق. وقد عبر الكثير من العراقيين عن خشيتهم ليس فقط من تأخير هذه المحاكمة، وانما من عدم اجرائها بالمرة. وسيكون ذلك امرا مؤسفا حقا.

Sunday, June 12, 2005

مشروع التغيير في الشرق الاوسط

لاشك ان التغييرات السياسية التي حدثت في بنية الدولة العراقية بعد زوال النظام السابق قد ساعدت في تغيير البنيات السياسية المتوارثة في المنطقة باسرها، وبعثت باشعة دافئة اخذت تذيب الجليد المتراكم عليها منذ قرون عديدة. لكن تلك التغييرات لم تبدأ بزوال نظام الحكم الفاسد في العراق، ولن تنتهي بنجاح الانتخابات فيه.
فمنذ اجتاح نظام صدام دولة الكويت المجاورة والحليفة عام 1990، بدأت تلوح في الافق ملامح تغيير سياسي يطرأ على طبيعة العلاقات الدولية في المنطقة، التي طالما كانت تتبجح بالروابط القومية والدينية في تحديد شكل هذه العلاقات، وتغاضت عن الاساس الاكثر شعبية عالميا في بناء العلاقات الدولية، وهو المنفعة المشتركة وتبادل المصالح.
لم يكن صدام حسين يطمح الى انشاء نظام دولي جديد، ولم يكن يريد ان يحرك الجمود لتنتفض المنطقة وتنفض غبار التخلف الفكري والسياسي الذي غطاها بالكامل. ولم يكن يهدف بمغامرته قصيرة النظر الى تطوير فرص تكافؤية قائمة على استغلال الامكانيات المتاحة. لم تكن تلك (الغزوة) سوى (نزوة) رجل بات يشعر ان ارضه تضيق به، وان عليه البحث عن المزيد من الاراضي تضاف الى ملكه. تماما كأي ملك، او طاغية من طغاة القرون الوسطى.على ان تلك المغامرة جلبت قوى بعيدة الى المنطقة، بعد ان ثبت خطل (العمل العربي المشترك)، وبات المخرج الوحيد للازمة هو بالتحالف مع (الشيطان) للخلاص. ولم تجد دول المنطقة بدا من الانضمام الى هذا الحلف، بعد ان اسقط في يدها واصبحت امام الخيار: اما عدو او حليف. ثم ما لبثت هذه القوة (المحررة) ان تطورت وتبلورت وحددت اهدافا استراتيجية، بعد ان حققت هدفها التكتيكي الاول: تحرير الكويت.
وهكذا.. بدأ التغيير. ووضعت الخطة بكل تأن وصبر، واصبح من الواضح للمتتبع ان انظمة الحكم العربية تساق وئيدا الى تنفيذ هذه الخطط بعيدة الامد. واصبحت اشاعة الديمقراطية في الشرق الاوسط هدفا استراتيجيا للادارة الأمريكية، بعد ان كانت تتغاضى في ماضي الزمان عن الدكتاتورية السمجة لمعظم الانظمة في المنطقة. بل انها دعمت نظام صدام نفسه في حربه ضد ايران، على اساس انه يخدم مصلحة اميركا العليا، بمحاربته لدولة تجاهر بالعداء لاميركا.
ان النتيجة التي آل اليها النظام السابق لم تكن مفاجأة للكثيرين، ومسيرة التغيير التي بدأت قبل خمسة عشر عاما اقتضت هذه النتائج، وما تلاها من نتائج اخرى. فالديمقراطية، التي اوجدت لها مكانا راسخا في العالم الغربي، بدأت تتخذ موقعها في العالم العربي، موجهة قوة هائلة في عكس ارادات شعوب المنطقة، وضاغطة بشكل كبير على الحكومات مهما تكن طبيعة واستبداد تلك الانظمة.

Monday, June 06, 2005

مسؤولية (الجزيرة) ام مسؤولية مشاهديها؟

ليس من عاداتي متابعة برامج اللقاءات الفنية في القنوات الفضائية، لا لانني لا احب الفن، ولكن لان الكثير من تلك اللقاءات ليست اكثر من استهلاك للوقت في قضايا لا تشكل اهمية، ولا تحمل مضمونا حقيقيا. ولكن حدث قبل ايام ان شاهدت احد هذه اللقاءات مع فنانة (لم اكن اعرفها سابقا) تعرضت الى احراج في لقاء مباشر بثته قناة الجزيرة الفضائية. ولفت انتباهي الطريقة التي وصفت بها الفنانة تلك القناة. فقد ادعت انها وقعت في فخ لم تكن تتحسب له، فكان اللقاء تجريحا وهجوما شخصيا وقالت انهم عمدوا الى منع المكالمات الهاتفية التي تويد موقفها، بينما اعطوا الوقت الكامل لمعارضيها. وقد عبرت تلك الفنانة عن استيائها من هذه التصرفات بقولها: لو لم تفعلوا ذلك لما كنتم قناة الجزيرة.
وقد كنت اظن ان مواقف الجزيرة المعروفة هي نتيجة توجهات ودوافع سياسية، وهي تمثل نمط خاص لنقل الاحداث والتعقيب عليها. وان هذا النمط انما يختص بالقضايا السياسية او ما يلحق بها. واكتشفت من خلال تلك المقابلة الفنية ان اسلوب الجزيرة لم يختص بميدان دون اخر، بل عمّها جميعا.
وربما لم تعد مثل هذه الملاحظات حول سياسية الجزيرة غريبة، او جديرة بالاشارة باي حال، ولكنني وددت التنبيه الى امر اخر. ذلك ان قناة الجزيرة، كاي فضائية اخرى، تسعى الى الانتشار لكسب المزيد من المشاهدين، وبالتالي المعلنين، مما يحقق لها ريعا مناسبا يجعلها قادرة على البقاء. واذا كان الانتشار يعني القبول من قبل المشاهدين، فاننا نستنتج ان ما تعرضه تلك القناة يلقى قبولا واسعا بدليل استمرارها، رغم اتخاذها نمط مختلف عن معظم القنوات الاخرى.
واذا كانت المسؤولية الاعلامية مشتركة بين الاعلاميين والمتلقين على حد سواء، فيجب البحث عن الاسباب التي تجعل الكثير من المشاهدين يفضلون قناة الجزيرة. وفي رأيي فان اولها ان تلك القناة تقدم التحليل الخيالي للخبر والذي يتناسب مع رغبة المتلقي في القاء اللوم على اطراف بعينها، دون الخوض في المسؤولية الذاتية. كما انها تداعب اسلوب تفكير المجتمع العربي الذي تتوجه اليه، والذي يعتقد ان كل الاحداث قد جرى التخطيط لها مسبقا، وان الشعوب ليست الا كائنا منفعلا لا حول لها ولا قوة. وهي تركز على الكراهية للغرب التي نشأت عليها الاجيال الحالية والتي نتجت اصلا عن الفكر الستاليني الذي غزى المنطقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وما بعدها.
وفي حالة الفنانة المشار اليها، فاني اتصور ان الكثير من مشاهدي الجزيرة لابد انهم استمتعوا في تعذيبها واحراجها بما يرضي غرورهم ويجعلهم يشعرون بانهم مهمون لانهم قادرون على تجريح الاشخاص المهمين. ولكن اليس بالامكان ان يشعروا بنفس الاهمية اذا استطاعوا ان ينقدوا بدل التجريح؟ ربما كان هذا من مسؤولية معدي البرامج والمشرفين عليها، ولكنني لا اناقش دورهم هنا، بل دور من يريد ذلك، وتوفرت له قناة تحقق له رغبته.
ان دور الاعلام لا يكون محصورا في مؤسساته بل يمتد الى جمهوره. واذا اردنا ان نصنع اعلاما منصفا، وجب علينا ان يكون متلقيه منصفين بنفس القدر، فالاعلام في الواقع انعكاس لحركة المجتمع ورغباته وتطلعاته. وسوف تكون الخطوة الاولى في الاصلاح الاعلامي، ان جاز التعبير، نشر هذا الوعي بين الجماهير والتي عليها ان تترفع عن الرغبات والقناعات القبلية، وان تكون اكثر قابلية على تحمل المسؤولية بدل ان تبحث عن قصص طوباوية تفسر بها الاحداث وتجعلها في راحة نفسية مصطنعة. وتلك هي ايضا اولى مستزمات الحرية، المفقودة في اغلب المجتمعات العربية.

Monday, May 30, 2005

رحم الله عقيلا

عامان مرّا على تحرير العراق.. شهدا احداثا جلل، وسجلا تاريخا مفجعا، من الاعتداء والارهاب والقتل الجماعي العشوائي، والاغتيال المنظم المبني على الاستهداف للشخصيات الوطنية، والسياسية والفكرية، والتي انعقدت عليها الامال في بناء العراق الجديد.
وقد بدأت مرحلة الدم تلك يوم ان قرر ثلة من المجرمين البائسين تصفية الصحفي الشهيد عقيل الجنابي، مؤسس جريدة الفيحاء البابلية، فاختاروا ان يسلبوا منه حياته، في محل عمله، وفي وضح النهار، وامام مرأى ومسمع العديد من جيرانه واصدقائه، ليعلنوا رسالة العهد الجديد: الارهاب بشقيه المنظم والعشوائي.
ورغم ان الجريمة سجلت ضد مجهول، الا انها ليست كذلك بالنسبة لبعض الناس. هؤلاء الذين شهدوا هذا الحادث الفاجع، وربما سمعوا جزءا من الحوار الذي دار بين الشهيد والقتلة، لم يستطيعوا ابدا ان يخرجوا من شياطينهم للبوح بهذا السر، الذي اخشى ان يقودهم الى حتفهم بكتمانه، اكثر من خوفهم على حياتهم بافشائه. ولا استغرب السكوت، فهذه شيمة الكثيرين من الذين تعودوا الاذعان والتذلل، والذين امدوا النظام البائد بخمس وثلاثين سنة من الطغيان والاستبداد وهضم الحقوق، والجريمة المغلفة بقانون الدولة.
لقد قدم لنا الشهيد الجنابي حياته قربانا للعهد الجديد، بتصديه للظلم، وبجرأة قلمه، وبوقوفه في مواجهة الباطل في وقت لم تكن الاشياء قد انكشفت، ولم يكن لاحد ان يتحسب ليومه او غده. اعلن نفسه كشمس الضحى ليراه القاصي والداني، بينما استكان اخرون خلف النوافذ يتربصون ليروا ما تصير اليه الامور.. لقد اراد الشهيد عقيل ان لا يُسرق التاريخ مرة اخرى، فيكتبه الانتهازيون والفضوليون، بل تصدى لكشف الزيف في التاريخ السابق، ولوضع القواعد الصحيحة لكتابة التاريخ الذي سيقرؤه ابناؤنا واحفادنا.
واليوم، وبعد ان مر عامان على استشهاد عقيل الجنابي، حريّ بنا ان نستذكر بطولته الفذة في مواجهة حملة الساطور الذين ارادوا لشعلته ان تنطفيء.. وبكل اسف فقد تمكنوا من ذلك، طالما هم احرار طليقين. ولكي نوقد تلك الشعلة من جديد فانني اتوجه بالسؤال الى كل من يهمه الامر ان يعاد التحقيق في مقتله، وان يستجوب كل من له صلة بالموضوع.. فقد تغيرت امور كثيرة منذ ذلك الحين، ولعل الله يحدث امرا ويظهر حقيقة ظلت طي الكتمان طيلة سنتين، لترتاح روحه التي اشعر بها ترفرف فوق رؤوسنا جميعا.. نحن الذين خبرناه وعرفناه وبكيناه.
رحم الله عقيلا.. اول شهداء الحرية والكلمة الصادقة.
ورحم الله عقيلا.. الشهيد ابن الشهيد.
وانا لله انا اليه راجعون.

Monday, May 23, 2005

صياغة الدستور والاستحقاق الانتخابي

لا يخفي الكثيرون خيبة املهم من نتائج الانتخابات الاخيرة، والتي خاضوها تحت تهديد الارهاب. ولكنهم قبلوا التحدي املا في احداث تغيير في كافة النواحي، وان تسيدها الجانب الامني، وبدرجة لا تقل اهمية الاصلاح السياسي والاقتصادي وصولا الى استقرار كامل يعكس وجه الديمقراطية المشرق الذي يتجه اليه العراق.
لكن نتائج الانتخابات لم تكن مع الاسف ممثلة للواقع العراقي ولاطيافه المختلفة. وتوزعت تلك الاطياف جغرافيا بشكل عام، وان توافر تمثيلها في كل المناطق العراقية، بل ان مدينة واحدة على الاقل ضمتها جميعا، وتلك هي كركوك.
ومن المعروف ان العرب الشيعة، الذين مثلتهم قائمة الائتلاف، قد حصدوا اغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية. بينما جاءت قائمة التحاف الكردستاني ككتلة ثانية في البرلمان، ليشكل تحالفها قوة مهيمنة لا تكسر لها شوكة ولا يلوى لها ساعد. ورغم ان ذلك هو الحال في جميع الديمقراطيات العالمية، الا ان وضع العراق يتميز بحساسية اكبر. فمن ناحية تعد تلك الانتخابات التجربة الاولى التي تعيها الذاكرة العراقية، ومن ناحية اخرى جرت هذه الانتخابات في ظل وضع غير مستقر وغير متجانس. بمعنى ان التهديد الامني للمناطق التي حصدت اغلبيتها في البرلمان كان افضل بكثير من تلك التي فاتها قطار الانتخابات. والواقع ان تمثيل الاطياف العراقية على اساس الطائفة والعرق فيه تجنٍ كبير، وهو تقسيم سطحي لا يقيم لدور الاحزاب السياسية والمنظمات المهنية والاجتماعية اي وزن. فليس الشيعة كلهم ينضمون تحت لواء شيعي، وليس لهم هدف انشاء دولة شيعية. كما ان السنة ليسوا غرماء لهم، وكون الفئة الحاكمة للنظام السابق تنتمي مذهبيا لهذه الطائفة لا يجعل السنة شركاءهم.
نعم لقد مدت قائمتا الائتلاف والتحالف يدهما لاشراك السنة العرب والاقليات الاخرى في الحكم. لكن شبح (الاستحقاق الانتخابي) كان مهيمنا على كل مراحل تشكيل الحكومة الانتقالية وبقي قرار الاختيار بيد رئيس الوزراء، الشيعي قبل كل شيء.
وامتدت عدوى (الاستحقاق الانتخابي) الى اهم واجبات الجمعية الوطنية في الظرف الراهن، والذي يفترض انه سيحدد مستقبل العراق، وهو صياغة الدستور الدائم، والاستفتاء عليه، ومن ثم اجراء الانتخابات استنادا اليه. فبعد تأخير وتسويف كبيرين، تم تشكيل اللجنة الدستورية مؤلفة من خمس وخمسين عضوا، وموزعة على اساس (الاستحقاق الانتخابي) اي نسب تمثيل كل فئة في الجمعية. ولعمري ان ذلك اجحاف غير مبرر، وانتكاسة كبيرة للمسيرة الديمقراطية. فالمبدأ الاساس في صياغة الدستور هو بلورة نصوص تمثل الواقع العراقي وتعكس طموحاته، وتجسد تفرده. وهي مباديء يمكن الوصول اليها من خلال لجنة تكنوقراط تضم خبراء في القانون والدستور علاوة على سياسيين واعلاميين واقتصاديين واكاديميين كجهات مساندة او استشارية.
ويبدو لي ان تلك اللجنة، بنسب تمثيلها الحالية، ستعمل على تحقيق مصالح خاصة وادراجها في نصوص الدستور وجعلها واقعا يصعب تغييره او تجاوزه فيما بعد، اكثر من كونها ستتنتج دستورا حضاريا يليق بالتضحيات التي قدمها ولا زال يقدمها الشعب العراقي المبتلى. يضاف الى ذلك احتمال تأخير الاعلان عن الدستور نتيجة خلافات سياسية، او رفض بعض الاطياف له في الاستفتاء الشعبي.. وكلا الامرين سيدخلان البلاد في متاهة من الفوضى السياسية، لا يعلم الا الله كيف يكون منتهاها.

Monday, May 09, 2005

فرص متساوية.. ديمقراطية حقيقية

واخيرا بعد انتظار طويل تشكلت الحكومة، وولدت بعد مخاض عسير كما يقال. وواضح انها نتاج تحالفات وصفقات مبنية على استحقاقات انتخابية اولا، وعلى توازنات ظاهرية تحمل سمة الشمولية والتنوع كمنظور عام، لكنها لا تصمد امام ابسط الاعتراضات، مما يجعلها هشة وغير متقنة، رغم استغراقها فترة ثلاثة شهور للاعداد والتحضير، ونتيجة لذلك ستجد نفسها على الدوام في موقف الدفاع.
فمنذ بداية العملية السياسية، اتخذت الاجراءات منحىً غير معتاد، بان دارت اولاً مفاوضات مكثفة ضمن قائمة الائتلاف والتي فازت باغلبية المقاعد البرلمانية، ثم بعد تسكين الخلافات انتقلت تلك القائمة الى طور التحالف مع القائمة الكردستانية، وما شاب هذا التحالف من احتمالات لعقد صفات سياسية على حساب قضايا مصيرية. وانعقدت الجمعية متأخرة شهرين بدعوى عدم جدوى الانعقاد ما لم يتم الاتفاق على شكل وتوزيع الحكومة المقبلة. ومع ذلك لم تولد الحكومة مع بواكير اجتماعات الجمعية، فقد كانت المفاوضات مستمرة بين الكتل الرئيسة. ورغم ان الحكومة أقرّت الان، الا ان سبعة من المراكز الوزارية أجـّلت لوقت لم يعين، وقد يأخذ اشغالها فترة ليست بالقصيرة.
فهل يُعد كل هذا طبيعيا في تشكيل الحكومات؟ ربما كان طبيعيا في حالتنا بسبب عدم التعود على النظم الديمقراطية، وعلى خوض العمليات السياسية وفق الاصول البروتوكولية المتبعة عالميا. ولكن لا نستطيع ان نقول ان ساستنا (جاهلون) بهذه البروتوكولات. سيما وان جـُلـّهم عاش خارج الوطن لفترات طويلة، ومنهم من عاش وتعلم في بلدان متجذرة في الديمقراطية.. وكنا نتوقع من هؤلاء ان ينقلوا التجارب التي اطلعوا عليها، وتحويرها لتناسب طبيعة المجتمع العراقي ان لم تكن كذلك. ولكننا نرى انهم يتظاهرون بهذا الجهل لغاية في نفس يعقوب.. فقد تنقلب عليهم الديمقراطية، ويصبحون هم اول ضحاياها، اذا مارسوها بشكل يضمن تساوي الفرص.. وهو واحد من اهم المباديء الديمقراطية.
ولن نتوقع لهذه الحكومة التي ولدت بعملية (قيصرية)، ونقلت الى قسم الخدج على الفور، ان تكون فعالة الى حد كبير. فاستقلالية المراكز الوزارية تفرضها طبيعة التحالفات التي انشأت الحكومة. وتقييد رئيس الوزراء باربعة نواب، انما هو تحجيم لدوره الذي رسمه له قانون ادارة الدولة المؤقت، الذي توقع ان يتولى رئيس الوزراء قيادة الحكومة بشكل قوي تحت اشراف مجلس الرئاسة، ومتابعة الجمعية الوطنية. واستئثار اطراف معينة بوزارات بذاتها يدل على طموح للسلطة اكثر منه رغبة في الخدمة العامة. ان آليات الديمقراطية لا تفترض حسن النية من احد، ولكنها تمنح الجميع فرصا متكافئة، وتستطيع ان تقلب عجلتها لتمنع التسلط والاستبداد.
والملاحظ ان الجمعية الوطنية التي يجب ان ينصب اهتمامها على الناحية التشريعية والرقابية تتجه شيئا فشيئا الى تولي المهمة التنفيذية بنفسها. وبعد اكثر من شهر لم تعتمد نظاما داخليا، في بادرة غير حسنة بالمقارنة مع المهمة الاساسية لها في هذه الفترة وهي اعداد مسودة الدستور. فكيف ستكون مناقشة مسودة الدستور داخل الجمعية عند اعدادها وقبل عرضها على الاستفتاء؟ وكم سيتطلب الاتفاق على هذه المسودة قبل استحصال موافقة الجماهير عليها؟ على ان مسألة النظام الداخلي هذه قد لا تكون اكثر من مناورة بحد ذاتها لاشغال المجلس التشريعي بشيء ما، بينما يتم توزيع (الكعكة) بين الفائزين.

Monday, April 25, 2005

الجمعية الوطنية ليست كائناً عضوياً

وقف عضو الجمعية الوطنية، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، مستنجدا بالجمعية لانصافه من حيف كبير وقع بحقه، بعد ان ادعى قيام احد عناصر الامن في القوات المتعددة الجنسيات، وعناصر من الحرس الوطني، بالاعتداء عليه لدى دخوله الى المنطقة الخضراء. واستثار هذا الموقف اعضاء الجمعية، الذين هبوا، في ما يزيد عن الساعة من الزمن، لالقاء الخطب الرنانة حول الاستقلال وطلب نقل مقر الجمعية.. ثم علقت الجمعية جلستها الصباحية واصدرت قرارا باستدعاء السفير الامريكي والطلب اليه بتقديم اعتذار عن هذا الحادث الذي عدّوه متكررا، اضافة الى معاقبة افراد الحرس الوطني المتورطين في الحادث.
ورغم اننا نعتقد بضرورة التمسك بحصانة اعضاء الجمعية، واعضاء الحكومة العراقية، وصيانة الشخصية الرسمية بشكل لائق، الا اننا نعتقد ان الجمعية قد تسرعت في اتخاذ موقف بناء على ادعاء احد الاعضاء. وهذا لا يعني اننا نشك في هذا الادعاء، ولكن لا ينبغي ان يتولى عضو واحد، او حتى مجموعة اعضاء، سوق الجمعية الى اتخاذ اجراءات معينة، دون التمحص والتحقق من طرفي القضية.
ومن ناحية اخرى، فان هناك قضايا اجرائية معينة كان ينبغي القيام بها حتى قبل التئام الجمعية. منها التعريف الكافي باعضاء الجمعية، ومنحهم بطاقات الهوية التي لا لبس فيها، وتقرير مكان عقد الاجتماعات واوقاتها. ان بعضا من هذه الاجراءات يقع ضمن حيز النظام الداخلي، الذي هو قيد الاعداد. ولكن هناك ثوابت معينة موجودة في اي نظام داخلي كان ينبغي اقرارها في جلسة الجمعية الاولى. وكان يمكن اتخاذ النظام الداخلي للمجلس الوطني السابق كصيغة مؤقتة لحين اقرار نظام داخلي لهذه الجمعية.
لقد حدث هدر كبير في الزمن. فقد تأخر انعقاد الجمعية لاكثر من شهرين بعد اجراء الانتخابات بدعوى المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة. وكان يمكن استغلال هذا الزمن في اتخاذ الاجراءات الضرورية وتوفير الاجواء الملائمة لعقد اجتماعات الجمعية. فحتى قاعة الجمعية ليست مناسبة لمثل هذه الاجتماعات من ناحية حشر الاعضاء على الارائك، وتنقل المايكروفونات بينهم، وغياب الية للتحدث وطرح مشاريع القرارات، وعدم امكانية حصر الاصوات بيسر، بل وعدم تسجيل هذه الاصوات كما ينص الدستور المؤقت. وكان يمكن استغلال الزمن الضائع في تدريب اعضاء الجمعية على الاساليب البرلمانية، وكيفية الحديث والاقتراح، واحترام جدول الاعمال والالتزام بالاوقات الواردة فيه، واصول تقديم المقترح وتعديله والنقاش حوله وطلب التصويت او التأجيل او الاحالة الى اللجنة المختصة.
وكان يمكن تدريب الاعضاء على فكرة الجسم البرلماني كهيئة تشريعية، وليست ككائن عضوي. بمعنى ان البرلمانات تناقش القضايا المطروحة امامها وتقدم المقترحات لحلها وتتدارس ايجابيات وسلبيات هذه المقترحات ثم تتخذ القرارات بشأنها.. وعند ذاك يكون القرار صادرا عن الجمعية، لا عن الاعضاء الذين اقترحوه او الذين ايدوه، وبالتالي فهو ملزم للجميع. وهذا هو معنى الجسم التشريعي. اما محاولة جعل البرلمان كائن عضوي، بان يقوم احد اعضائه باستثارته، فيقوم الاعضاء الاخرون بتأييده فقط لانه احد الاعضاء، واعتبار الاعتداء عليه اعتداء على الجمعية، هو امر مرفوض. فالبرلمان يمثل الشعب، كما يمثل السيادة الوطنية، التي لا تتحقق فقط بمنع الاعتداء على احد اعضائها، وانما بصيانة حقوق جميع افراد الشعب بنفس القدر من الحرص. وعلى هذا، فان على البرلمان ان يتفاعل مع الشعب وقضاياه ويستجيب لها بمسؤولية وواقعية، لا ان يهدر الزمن الثمين في مناقشات جانبية اقل ما يقال عنها انها غير مهمة.

Monday, April 18, 2005

قوانين مرورية جديدة

لم يعد الحصول على سيارة شخصية امرا بعيد المنال، كما كان عليه الحال قبل عامين فقط. وصار بامكان الموظف البسيط، والكاسب والطالب، وغيرهم من شرائح وطبقات المجتمع اقتناء سيارة حديثة نسبيا تسهل تنقله وتختصر الزمن المهدور في وسائل النقل العامة. وخلال العامين المنصرمين غصت شوارع كافة المدن العراقية بالكم الهائل من السيارات ذات المناشيء المتعددة والموديلات المختلفة حتى بات التمييز بينها متعذرا لكثير من الناس. وجلبت هذه المركبات معها قوانين جديدة، لسائقين جدد، في بلد يتجدد كل حين.
فبعد أن غزت الشارع المركبات ذات المقود الأيمن، والتي سمح لها بالتحرك بكل حرية حتى وقت قريب، لم يعد مهما الالتزام بالجانب الأيمن للسير، والجانب الأيسر للاجتياز.. وصار السير على الجانبين مسموح، والاجتياز من الجانبين مسموح أيضا في بلد المسموحات الكثيرة. وإذا فسرت لأحدهم سبب كثرة الحوادث التي تقع لسيارات المقود الأيمن، مقارنة بتلك ذات المقود الأيسر العادي، جاءتك الإجابة مباشرة: السبب ليس في السيارة بل من السائق.. فهل يمكن أن تكون المركبة بأي حال هي السبب؟
وساهم انقطاع الكهرباء بشكل مستمر في تعطيل إشارات المرور الضوئية تماما، وحل محلها شرطي المرور، أو مجموعة من شرطيي المرور في التقاطع الواحد.. وهنا يوجد قانون جديد آخر: إذا أشار لك شرطي المرور بالتوقف وكان سمح للسيارة التي أمامك بالمرور، فهو لا يعني أن تتوقف أنت، بل السابرة رقم ستة أو سبعة خلفك، فلا عليك إن أهملت هذه الإشارة ومضيت قدما في تجاوز التقاطع. وحتى إن كان السير متوقفا في اتجاهك، فيمكنك التحرك رويدا رويدا لتصبح في منتصف التقاطع وتجبر شرطي المرور على إيقاف السير في جميع الاتجاهات لتمر سيارتك، وإلا فان اختناقا كبيرا سيحصل.
ومن القوانين الهامة التي نتجت عن وجود أجيال شابة من المركبات وأخرى في مرحلة الكهولة، أن الأولوية لم تعد لمن في الساحة كالسابق.. بل أصبحت الأولوية للسيارة (الأكبر عمرا).. فإذا كنت تقود سيارة نوع (لادا) موديل 1975، وأردت الخروج من شارع فرعي إلى الشارع العام، فليس من المهم الانتباه إذا ما كانت هناك سيارات تسير فيه، لأنها على الأغلب ستكون (اوبل) موديل 1992 وسيكلف الحادث صاحبها الشيء الكثير، بينما لا تخسر أنت شيئا.. خصوصا إذا كنت ماهرا في رفع صوتك ووصف سائق المركبة الأخرى بالأعمى والجاهل والـ(حواسم) وغيرها من الأوصاف التي ستجعله يفر مذعورا من مكان الحادث.
ويعتقد الكثير من السائقين أن الإشارة الضوئية الجانبية في المركبة ليست جدية أو ضرورية.. فقد يعمد بعضهم إلى فتح إشارته للجهة اليمنى، ولكنه يستدير يسارا.. أو يفتح الإشارة اليسرى ولكنه يمضي قدما في المسير دون أن يستدير. وإذا أراد التوقف وكان على الجانب الأيسر، فما عليه إلا أن يكبح الفرامل فورا ثم يأخذ الجانب الأيمن، ولا يهم حجم الإرباك الذي يحصل في الشارع.. فالمشكلة بالنسبة إليه أن الشارع ضيق ولا يتحمل هذا العدد من السيارات.
والقوانين الجديدة لا تقتصر على مقتني المركبات، بل تعدتهم إلى أصحاب المحلات والدكاكين والدور التي تقع على شارع عام. فقد أصبحت المساحة من الشارع التي تقع أمام محلاتهم حقاً لهم، ولا يجوز لأحد التوقف فيها وان كان قانون المرور (القديم) يسمح بذلك. وعمدوا إلى وضع حواجز حديدية، وصخور، وأحيانا علب الصفيح والكراسي المستهلكة لمنع التوقف في هذه الأماكن. وإذا تجرأتَ وأزلتها وأوقفت سيارتك في هذه الأماكن (المحرمة) فعليك أن تتوقع مشكلة كبيرة تصل إلى حد الاعتداء عليك بالضرب والسب والشتم.. فهذا تعدي على أملاك الغير، وعلى المرء أن يدافع عن أملاكه! ولكن بعض السائقين لا يمانع في امتلاك نواصي الشوارع الفرعية، بحيث لا يمكن الدخول إليها من الشارع الرئيسي.. فهذه أماكن يمتلكها من يقف عليها، وإذا حدث أن احتـُجزت فيها خلف سيارة متوقفة في مدخل الشارع، فلا ينبغي إن تلوم سائق تلك السيارة، بل وجه اللوم إلى نفسك لأنك تسكن في شارع فرعي.
ومع استمرار غلق الشوارع وتحويل معظم حركة مرور المركبات إلى عدد محدود من الشوارع والجسور.. ظهرت قوانين (حواسمية). منها، أن سيارة الأجرة لها أولوية على باقي السيارات، طالما كان الوقت مهما لها دون غيرها، ولذلك فلا عليها إن اجتازت صفا طويلا من المركبات من جهة اليمين، أو باستعمال الرصيف، أو بالتعدي على اتجاه السير المقابل، لتصبح فجأة أول مركبة في الصف!
وباستخدام الذرائع الأمنية، يمكن غلق أي شارع في أي وقت ومنع التوقف في شوارع أخرى، وإذا اضطررت للتوقف لسبب ما، فقد يهاجمك عشرة من أفراد الشرطة المدربين جيدا، والذي يصوبون بنادقهم الآلية غير المؤمـّـنة صوبك أمريك بالتحرك فورا. وهذا هو أحدث القوانين.. فمع غياب الأساليب المتعارف عليها في تطبيق القانون الذي يعرفه الجميع (والذي صار قديما)، قد تدفع حياتك ثمنا لمخالفتك القانون (الجديد) الذي تجهله لا عن عمد.

Monday, April 11, 2005

مؤهلات موجودة.. مؤهلون مفقودون

ما هو المعيار الذي يحكم اختيار الاشخاص المناسبين لتولي مهام سياسية، تمنحهم القدرة على الهيمنة على مقدرات الشعب، والتحكم بمصيره؟ ما هي مواصفات هؤلاء الاشخاص، وكيف يتم انتقاؤهم، بل وكيف نحثهم على تقديم انفسهم، ان كانوا ضمن الاغلبية الصامتة؟ هل نتوقع ان يحدد الدستور مؤهلات صارمة للموشحين، ام يترك ذلك للتقدير الشعبي؟
لعل هذه الاسئلة تدور في اذهان الكثير من الناس، بعد ان تردد ان بعض اعضاء مجالس المحافظات (وربما الجمعية الوطنية) قد خالفوا التعليمات ورشحوا انفسهم ضمن قوائم انتخابية.. وكان ابرز هذه المخالفات عدم حصولهم على الشهادة الاعدادية، بل ان بعضهم عمد الى (تزوير) الوثيقة المدرسية بهدف الاشتراك في الانتخابات! وهذا الامر يفتح الباب لتساؤل جاد: هل خلا البلد من حملة الباكلوريوس والماجستير والدكتوراه، حتى يتم ترشيح من لم يحصل حتى على شهادة الاعدادية؟ لقد كانت هذه اقل المتطلبات، ولكننا نجد انها اصبحت وكأنها شيء نادر، يصعب الحصول عليه.
طبعا، هناك اشخاص لهم تأثير مهم في المجتمع لم تتوفر لهم فرصة الحصول على شهادة عليا بسبب الهجرة او العمل او الانشغال بالعمل السياسي في المعارضة. ولكن تلك هي حالات خاصة، وعلى كل حال كانت فكرة القبول بالشهادة الاعدادية من اجل هؤلاء حصرا. على اننا نجد ان هناك الكثير من الاعضاء في الجمعية الوطنية او مجالس المحافظات لم يتجاوزا الاعدادية، وان كان الكثير منهم لم يكن في صفوف المعارضة او مهاجرا او حرم من التعليم لاسباب قاهرة.
على ان تمثيل المواطنين يحتاج الى مؤهلات خاصة، وتدريب تقني متميز. ففي الكثير من دول العالم يشترط ان يحوز من يتقدم منصب عام، تشريعي او تنفيذي، على شهادة اكاديمية في العلوم السياسية او الادارة او فن الحكم. فليس من المعقول ان يتدرب ممثلو الشعب على كيفية ادارة شؤون المواطنين من خلال موقعهم القيادي. وليس من اللائق ان يستخدم الشعب ساحة للتجارب والمناظرة. يجب ان يكون صانعو القوانين ومنفذوها على قدر كبير من الدراية والخبرة مما يمنع الى حد كبير خسارة الوقت والجهد في بحث تشريعات خيالية، او تطبيقها بشكل اعمى.
فما بالك، اذاً، بالذي يزور الشهادة الدنيا المطلوبة منه؟ لاشك انها انتكاسة عظيمة للديمقراطية ولمبدأ الثقة الذي نتوقع ان يسود في الحقبة التالية.. كما انها حرمان للمواطن من حقه في التمثيل النيابي، حيث ان الانظمة الحالية للمفوضية، والتي تحكم كيفية اختيار اعضاء المجالس والجمعية، ومنها النظام 17، تمنع استبدال العضو الذي يتبين عدم اهليته. وهكذا فان المجلس سوف يصبح اقل عددا وبدون استعاضة، والمواطنون الذين صوتوا لهؤلاء، ثقة بهم وبالاجراءات التي تتخذها المفوضية، سيضحون بلا تمثيل. وقد كان احرى بالمفوضية العليا للانتخابات، وفروعها في المحافظات العمل على التأكد من اهلية كل مرشح قبل الموافقة على ترشيحه، ضمانا لحقوق الناخبين، وليس الاكتفاء بالتعهد الشخصي من الكيان السياسي.. اذ ما الفائدة بعد ذلك من التدقيق، سوى سحب عضوية المزورين؟ وهل كونهم اعضاء مجالس هو امتياز لهم؟ لا نريد ونحن على ابواب تحقيق ديمقراطيتنا الخاصة، ان يفكر قادتنا بانهم يحصلون على امتياز لكونهم في موقع ما.. يجب عليهم ان يفكروا ان خدمة المواطن وحمايته هي الهدف النهائي للحكومة، وان تواجدهم في سدتها يجعلهم مسائلين اكثر مما هم مسؤولين. ومن لم تتوفر له المؤهلات الكافية، والتي من اهمها التحصيل العلمي، عليه ان يكون ناصحا وموجها وناقدا، ولكن ليس نائبا ممثلا للشعب.

Monday, March 28, 2005

معركتنا مع الارهاب.. لا مع الاردن

نشرت صحيفة اردنية مغمورة خبرا مفاده ان عائلة الانتحاري الذي نفذ جريمة تفجير الحلة، والذي يدعى رائد البنا، قد احتفلت بهذه الواقعة وان والده استقبل (المهنئين) بـ(استشهاد) ابنه، لا المعزين. ونشرت الصحيفة الخبر مليئا بالمغالطات والاخطاء الواضحة، مثل قولها ان منطقة الحلة تقع في بغداد، وانه قتل في العملية 132 شخصا، معظمهم من الامريكيين. ثم عادت الصحيفة لنشر تصويب بعد ايام اقرت فيه بعدم سقوط اي امريكي في عملية الحلة (حسب تأكيد السفارة العراقية بالاردن)، وان البنا، وان كان نفذ عملية ما في العراق، الا انه ليس مَن نفذ جريمة الحلة. وعرضت محطات فضائية صوراً لوالده يتبرأ من هذه الافعال.
وكانت مظاهرات غاضبة قد اكتسحت الشارع العراقي في معظم المحافظات، بينما اجتاح المتظاهرون مبنى السفارة الاردنية في بغداد واحرقوا علم الاردن، وسط صيحات وهتافات الاستنكار والاستهجان للموقف الاردني. ثم طالب السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق ورئيس قائمة الائتلاف العراقي الموحد، في اول جلسة للجمعية الوطنية، الحكومة الاردنية باتخاذ باتخاذ الاجراءات اللازمة "لايقاف عمليات
التحريض والتعبئة وتجنيد الارهابين الاردنيين الى العراق". وقال الحكيم "اننا ندين بشدة تجاوز الاردنيين علي حياة العراقيين".
وعكست مواقف الشارع والمسؤولين مرارة حادة من تدخل العناصر الاجنبية في العراق وتحويل ارضه ومواطنيه الى ساحة تصفية حسابات مع الولايات المتحدة، ومن استهانة الارهابيين بارواح الموطنين واستهتارهم بالدم العراقي، واباحتهم قتل الشرطة والحرس الوطني وموظفي الدولة ومسؤوليها وحتى افراد عاديين يشتبه في تعاملهم مع (الامريكان). وكان التفجير الانتحاري الذي استهدف سوقا في مدينة الحلة اوضح دليل على عشوائية الاستهداف.. وان العمليات صارت موجهة للشعب العراقي ذاته، لا الى القوات المتعددة الجنسيات.
ورغم ذلك، يجب الانتباه الى قضية مهمة. فالارهابيون ليسوا محددين بجنسيتهم، كما هم غير محددين بمذهبهم او دينهم، ولا تـُعد الشعوب والدول التي ينتمون اليها معادية فقط لانها انجبتهم. كما ان وجود فئات في بعض المناطق تؤيد افعالهم، لا يعني ان جميع تلك المناطق مؤيدة لهم. ومن الخطأ الانجرار الى استنتاجات سطحية، والتعامل مع الشعوب على اساس تصرفات بعض افرادها. نعم، لقد ايد الكثير من الاردنيين نظام الطاغية، وحزنوا لسقوطه، وتهاتفتوا للدفاع عنه عند محاكمته. ولكن ذلك لا يعني ان اغلبية الاردنيين يناصرون هذا التوجه، ناهيك عن الحكومة الاردينة. وقد كانت الاردن في بعض الاوقات ساحة لفعاليات ارهابية، ولا احد يستطيع الجزم انها في مأن منه الان. وكانت السفارة الاردنية في بغداد اول هدف لعملية انتحارية بعد زوال النظام السابق.
ان المسؤولية الاعلامية كبيرة، وكان ينبغي على صحيفة (الغد) الاردنية ان تتوخى الدقة في نشر اخبارها، خصوصا اذا كان يمكن لها ان تتسبب في تأزم العلاقات بين الحكومات والشعوب. ويؤخذ على الحكومة الاردنية تباطؤها في التعامل مع هذه الاحداث، ربما لسوء تقديرها للعواقب. وسواء كان (البنا) هو المسؤول عن جريمة الحلة الاثيمة، او لم يكن.. فان الشعب الاردني غير مسؤول عن هذا الفعل. وسواء احتفل والده بـ(استشهاده) ام اقام مأتما، فان الدولة الاردنية لا يجب ان تدفع الثمن. ان معركتنا مع الارهاب، وليست مع شعوب ودول عانت من الارهاب كما نعاني منه، وان كان هناك فارق في الدرجة.

Monday, March 14, 2005

لا عذر لانتهاك حقوق الإنسان

دأبت قناة (العراقية) الفضائية خلال الأسابيع الأخيرة، على عرض اعترافات لـ(إرهابيين) تم اعتقالهم على يد قوات الشرطة والحرس الوطني (الجيش العراقي). ولاقت هذه الاعترافات صدى واسعا لدى الشعب الذي ضاق ذرعا بالممارسات الإجرامية المتكررة التي يقوم بها أناس ادعوا أنهم (يجاهدون) من اجل (تحرير) العراق. تلك الممارسات المستهجنة من التفجيرات العشوائية، والاغتيالات المنظمة، والإرهاب عبر الانترنت والفضائيات، ربما جعلت الكثيرين يغضون النظر عن طبيعة الاعتقالات وكيفية الحصول على الاعترافات من الأشخاص الذين يتم عرضهم على أساس أنهم (مجرمون) أو (إرهابيون).
ومع أننا ندرك أن قوات الشرطة والحرس الوطني تلعب دورا مهما في محاولة القضاء على تلك العناصر المخربة، إلا أننا في نفس الوقت ندين انتهاكات حقوق الإنسان التي تجري عبر شاشات الفضائية العراقية.. ليس لأننا نعتقد أن هؤلاء الأشخاص أبرياء، ولكن لان القانون والدستور (المؤقت) كفل لهم حقوقا معينة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار، والا فإننا نتجه بعكس التغيير الديمقراطي الذي يفترض انه بدأ يشكل نقطة انبعاث لكل دول المنطقة.
من تلك الحقوق عدم عرض تلك الاعترافات قبل محاكمة المتهم وإدانته، أو الحصول على أمر قضائي يسمح بهذا الإجراء.. وحتى في هذه الحالة، لا يجب التنكيل بهؤلاء، ووصفهم بصفات رذيلة، وسبّهم ومعاملتهم بطريقة استعلائية، ومن المأثور (من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر). إذا كان هناك ضرورة لعرض الاعترافات، ووافق الأشخاص بمحض إرادتهم، وتم الحصول على أمر قضائي يسمح بذلك، فان الاعترافات تلك يجب أن تصف الوقائع، والوسائل، والنتائج للأفعال التي ارتكبوها، وان تكون مقرونة بالأدلة المادية.. لا أن تكون ساحة للتشفي وإظهار القوة والمقدرة. وقد كنا نطمح أن تكون منظمات حقوق الإنسان وبالأخص وزارة حقوق الإنسان أكثر اهتماما بهذه القضية، ولكنها صمتت بشكل غريب تماما!
ثم، ما الداعي إلى وصف احد المتهمين بأنه من عائلة منحطة يمارس كافة أفرادها الرذيلة والقيادة؟ وماذا سنستفيد من هذه المعلومة؟ إن من يقوم بنسف جسر أو قطع رأس أو خطف طفل، لهو مجرم سافل، ولن يكون لتاريخه أو سمعته تأثير على النتيجة. وقد قال تعالى (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). اذاً، من يعترف بالقتل فقد اعترف بأنه ارتكب فعلا آثما، اشد من القيادة والزنا، ولا قياس.
وقد راعني أن اشهد إمام جامع في الموصل، بلحية بهية طليقة منذ سنوات على ما يبدو، يُجبر على الاعتراف بأنه مارس (اللواط) في المسجد، ولذلك طرد منه.. مع انه اعترف بالتحريض على أعمال العنف، وحضور جلسات الإعدام دون اعتراض عليها، وبرر ذلك بأنه من تزيين الشيطان. وكان الأجدى أن يسمح لهذا (الإمام) بالتحدث عن كيفية انحرافه نحو الضلال، ثم كيف ثاب إلى رشده، وعرف طريق الحق، ليكون عبرة لغيره، وسببا لتوبة آخرين لازالوا سادرين في غيهم.
على أن الشرطة تريد أن تقنعنا أنها تعمل على إجتثاث (الإرهاب) وأنها تسيطر على الشبكات الإرهابية، بل هي في طريقها للقضاء عليه تماما، في الوقت الذي يستمر الإرهاب بالسيطرة على مجريات الأحداث اليومية بنفس الوتيرة السابقة.. وبدلا من التحقيق في حوادث التفجير اليومية، واقصد التحقيق الجدي للوصول على العناصر التي تقدم الدعم والإسناد والمعلومات للعمليات الإرهابية، والمبنية ضمن هيكل الدولة من شرطة وحرس وغيرهما.. بدلا من ذلك تعرض (العراقية) الاعترافات على أنها نصر حاسم في تلك المعركة. والمثير للاستغراب، أن تفجير الحلة الدامي وقع بعد عرض الاعترافات، وكان تفجيرا انتحاريا. ولا أظن هذا الانتحاري كان (قوادا) وإلا لفضل الحياة. وأوقع هذا التفجير ضحايا كثيرة بسبب سوء الإجراءات الأمنية حول موقع التفجير. ثم هوجمت قبل أيام وزارة الزراعة وفندق السدير ببغداد بـ(شاحنة نفايات) مفخخة يقودها انتحاري!! فمن أين جاء بها؟ ورغم كثرة ما يعرض من (إرهابيين) في الموصل، إلا أن ذلك لم يمنع انتحاريا من تفجير نفسه في موكب عزاء، ثم يُقصف الموقع نفسه بمدافع الهاون لمنع تشييع الشهداء، فأين سيطرة قوات الأمن على الموقف؟
نأمل أن تنظر أجهزة الشرطة، وباقي أجهزة الدولة، إلى نفسها أولا، وتعمل على تنقيتها وتنظيفها وإزالة العناصر الخبيثة، قبل أن تعمل على تشويش الحقائق على الشعب المسكين، وتحرمه من حقوقه الأساسية، مرة أخرى. إذ أن انتهاك حقوق عراقي واحد، يجب أن ينظر إليه على انه انتهاك لحقوق جميع العراقيين. ولنتذكر جميعا عذر صدام في جميع جرائمه، انه كان يريد إحلال الأمن والاستقرار في البلاد. ولا أجد عذرا آخر لما تعرضه قناة (العراقية)، التي تدار من قبل الدولة.