Tuesday, November 29, 2005

ضياع الهوية ام ضياع المقاعد النيابية؟

بدأت الحملات الانتخابية للقوائم المرشحة لمجلس النواب بالتصاعد يوما بعد يوم. وغزت الشوارع والساحات والبنايات الحكومية والاهلية وغيرها لافتات تدعو المواطنين الى التصويت لهذه القائمة او تلك. وحاولت الكيانات السياسية من خلال ملصقاتها ولافتاتها واعلاناتها المتلفزة ان تشرح برامجها الانتخابية، لحث الناخبين على الادلاء باصواتهم بموجب هذه البرامج. وركزت بعض هذه الاعلانات على شخصية معينة من بين المرشحين على اساس انها تمتلك المواصفات الكفيلة بتحقيق امال الشعب العراقي وارساء الأمن وتحسين الخدمات واعادة الاعمار وغير ذلك من الاهداف التي تلامس قلوب العراقيين الطامحين لتحقيق ابسط قدر منها على الاقل.
والحق ان هذه الدعاية الانتخابية هي بحد ذاتها مكسب للشعب. فبخلاف ما جرى في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني، لم ترتكز هذه الدعاية على استلاب حرية المواطن وتحديد خياراته من خلال استعمال الرموز الدينية وتوظيفها لصالح قائمة بعينها. وهذا يؤشر تطورا مهما في العملية الديمقراطية قد يكون سببه زيادة الوعي الانتخابي لدى الشعب. كما ان مثل هذا التطور خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة يؤكد حضور الذهنية العراقية ويقضتها. ولو حاولت قائمة ما ان تسعى لاقحام الدين كعامل حاسم في التصويت لاصيبت بنكسة كبيرة قد لا تستفيق منها ابدا.
ولكن اسس الدعاية في الانتخابات الحرة لم تستقر بعد، ولم تصبح متينة بما فيه الكفاية لتجاوز الدعاية السلبية القائمة على الطعن في الاخرين لمجرد اسقاطهم، وتحديد خيارات الناخب لصالح القائمين عليها فقط. من ذلك ادعاء البعض ان الانتخابات القادمة هي انتخابات (تحديد الهوية)، بمعنى ان نتائجها يجب ان تعكس اطياف الشعب العراقي بنسبة مماثلة لاعدادها السكانية. ورغم ان هذا المبدأ يبدو منصفا، الا ان اعتماده اساسا في التصويت قد يؤدي الى عواقب وخيمة. فلو كان التمثيل البرلماني قائما على الطائفة او العرق لكانت الفئة الاكبر هي التي ستتولى اتخاذ معظم القرارات طالما انها تمتلك الاغلبية في مجلس النواب. غير ان مجلس النواب لا يختص بطائفة وان كانت اغلبية الشعب. واوضح مثال على ذلك انتخاب رئيس للعراق من الطائفة الكردية، ومع ذلك فقد مثل العراق في شتى المحافل ومنها جامعة الدول العربية، رغم انه ليس عربيا.
واذا كان القانون الانتخابي الحالي يتيح المجال امام المحافظات لارسال ممثليها الى البرلمان، فليس معنى ذلك ان هؤلاء سيكونون ممثلين لمحافظاتهم فقط، بل انهم ممثلين لجميع العراق. وحقيقة انهم اصبحوا في مجلس النواب بفضل اصوات محافظاتهم يحملهم مسؤولية تلك المحافظات، ولا يعفيهم من اثبات اهليتهم على المستوى الوطني كجزء من رد الفضل الى تلك المحافظات التي صوتت لهم. ولهذا فان العامل الاساس في التصويت يجب ان يكون اهلية المرشحين وكفاءتهم علاوة على البرنامج الانتخابي، بغض النظر عن الطائفة او العرق.
ان مبدأ (تحديد الهوية) انما هو مناورة انتخابية لاستجلاب الاصوات لهذه القائمة او تلك، وصرف النظر عن مرشحيها. ولو كانت هذه القائمة او الكيان تعتقد باهلية مرشحيها او اخلاص برنامجها الانتخابي لما سعت الى استخدام هذه المناورة. فالانتخابات وسيلة ديمقراطية للتعبير عن طموحات وامال الشعب. وفكرة الانتخابات الحرة قائمة على ان المواطن حر، بدنيا ونفسيا وفكريا، في الادلاء بصوته لصالح الجهة التي يعتقد انها الافضل تمثيلا له.
بالطبع يمكن الاحتجاج ان الحالة المثالية للانتخابات الحرة غير ممكنة، وهذا صحيح ككل الاشياء المثالية في حياة البشر. لكن الحكم في ذلك يعود الى مقدار اقتراب الحالة قيد النظر من الحالة المثالية. فالقول للناخبين ان برنامج قائمة ما يتضمن كذا وكيت، يختلف عن القول لهم ان التصويت لقائمة اخرى هو امتثال لامر ديني. ففي الحالة الاولى يمكن تصور خلاف الموضوع المطروح، بينما لا يمتلك الناخب في الحالة الثانية خيارا في تصور الخلاف. ولهذا فان الحالة الاولى اقرب الى قواعد الديمقراطية من الحالة الثانية. وقد يكون برنامج القائمة في الحالة الاولى محض تصورات غير واقعية ويكون مرشحو هذه القائمة غير اكفاء او وصوليون طامعون في المنصب والجاه. ولكن ذلك لا يعني انهم اسوأ من مرشحي القائمة التي تتحزب للطائفة على اساس الخوف من ضياع الهوية، او القائمة التي تستند الى المقدس بدعوى حسابات فلكية عجيبة. من ناحية اخرى، فان كثرة القوائم والكيانات المتنافسة في هذه الانتخابات ادت الى تشوش ذهنية الناخب وتشتته بين البرامج الانتخابية والاحزاب والشخوص، علاوة على العوامل القومية والدينية والثقافية التي تحدد خياراته. وتجد الكثير من المواطنين يعبر عن اعجابه بشخصية ما في احدى القوائم، وبشخصية اخرى في قائمة اخرى.. ومع ذلك فهو يعتقد ان عليه ان يصوت لقائمة مغايرة لكل منهما. وسبب هذا التنازع، ان هناك كما هائلا من الخيارات، يقابله تشابه في البرامج، مما يجعل الناخب في حيرة كبيرة ويحثه الى اتباع الطريق الاسهل عادة، مثل التصويت على اساس ديني او عرقي او طائفي.
لذلك فاننا ندعو الى النظر بروية في البرامج الانتخابية اولا، والى سيرة المرشحين ثانيا، وخصوصا ما افرزته المرحلة السابقة من شخصيات وطروحات فكرية وسياسية. ومسؤولية التصويت هي في النهاية ذاتية غير مرتبطة بالحزب او الطائفة او المذهب او العرق.