Tuesday, November 01, 2005

حق الحياة المقدس

خلال مسيرة الانسانية تطورت الكثير من المباديء وتهذبت وتشذبت بحيث اصبحت تميزه، وتسجل تحضره وانتقاله من حياة الصيد والغابة الى حياة المجتمع الزراعي والصناعي، واتاحت له التعايش بسلام وامن مع ابناء جنسه. وهذه المباديء ليست بالضرورة ان تكون من صنع الانسان نفسه، بل ان جلّها قد يكون اوحي اليه من خلال الديانات السماوية السامية والتي ارتقت بهذا الكائن الضعيف واكرمته، وعلمته ان يقدس الحياة البشرية ويجعلها اول المحرمات على افراد المجتمع.
ان حق الحياة المقدس ضمنته الديانات كافة، سماويها وارضيها، والقوانين الوضعية على مدى التاريخ المدون في كل الحضارات الانسانية التي نشأت بمختلف اصقاع الارض. والقاسم المشترك لهذا التقديس ان الحياة لا يمكن ان تنتهك الا قصاصا. والقصاص لا يكون الا ببينة وحكم من سلطة مختصة، مع منح المتهم حق الدفاع عن نفسه.
والحروب سمة اخرى من سمات التطور البشري. وهي كثيرا ما اخذت طابع الدفاع عن اهداف نبيلة ومباديء سامية، واكتسبت في بعض الاحيان تسمية الحرب (العادلة). لكنها كانت على الدوام وسيلة لفرض رأي احدى الجهتين المتقاتلتين على الجهة الاخرى. والحرب تعمل على توحيد المجتمع بشكل يفوق ما يمكن لنعم السلم ان تفعله، لانها تضع وحدة المجتمع ووجوده على كفتي ميزان. ولطالما وافق ابناء المجتمع على خوض حرب لم يوافقوا على دخولها اصلا. والزعماء ادركوا ذلك منذ البداية، فجعلوا اشعال الحروب ديدنهم وشغلهم الشاغل. واكتشف هؤلاء ان ربح الحرب يطيل عمرهم ويمدهم باموال تعينهم على البقاء في السلطة، بينما خسارة هذه الحرب يحولهم الى رموز وطنية يحتفل بهم ويمجد لهم.
ان المجتمعات المختلفة اوجدت طريقة للتعايش رغم الاختلاف تقوم على تبادل وجهات النظر واحترام حق كل طرف في ان يعتقد بما يشاء وان يفعل ما يشاء ضمن حيزه ومنطقته. وعمل التبادل التجاري على تقوية الاواصر بين المجتمعات واذابة الفروقات التقليدية. ونشأت روابط اجتماعية نتيجة لهذه الاواصر التجارية وطوعت، رويدا رويدا، بعض المعتقدات والتقاليد لتناسب كل من تلك المجتمعات مع احتفاظ كل منها بخصوصيته وتميزه.
وبالمقابل، بقي نفر في كل مجتمع ينادي بالتقاليد (الاصيلة) ويتباكى على الاعراف المنتهكة. وهؤلاء وان لم يحصلوا على اغلبية في مجتمعاتهم، وانعزلوا في صوامع بعيدة، ونعتوا بالتطرف والتشدد، الا انهم لم يُعدموا موافقة صامتة على مواقفهم. فهم من نسيج ذلك المجتمع ومن نتاجه. وابناء المجتمع الواحد مهما يكن اعتدالهم، لا يستطيعون تقبل التعديل والتحريف على معتقداتهم خلال جيل او جيلين. وهم قد لا يقاومون مثل هذه التعديلات مباشرة، الا انهم لا يمنعون من يقوم بتلك المقاومة، حتى وان سلك طرقا خاطئة في مقاومته تلك.
وهكذا، اذا شعر المجتمع ان قيمه تتعرض الى تغيير (قسري)، حتى ولو كان هذا الشعور ناجما عن جهل ذلك المجتمع بطبيعة ذلك التغيير، فانه لن يسعى الى ايقاف المعارضة المتطرفة. بل انه سيشعر ان السماح لتلك المعارضة بالعمل هو جزء من الواجب المتروك. ولان مبدأ الحرب يحتم انتهاك قدسية الحياة، فان الزعماء المتطرفين لن يجدوا غضاضة في الامر بالقتل والتقتيل لتحقيق مآربهم التي يريدون ان يقنعوا الشعب انها مآربه هو ايضا.
ان ما نشهده اليوم من تطرف في اماكن كثيرة من العالم الاسلامي هو مصداق لما تقدم. فالكثير من المسلمين يعتقد ان هناك مؤامرة غربية على دينهم، وانهم مستهدفون لانتمائهم. واستغل المتطرفون في تلك المجتمعات الاسلامية هذه المخاوف في تجنيد الاتباع، واستباحة الانفس تحت شعار (الحفاظ على الدين) وتصوروا انهم يخوضون حربا مقدسة لانقاذ الدين من هجمات (الكفار). ولكن الحقيقة ان التغيير الذي يحدث اليوم يشمل كل الحضارات والاديان، نتيجة الطفرات العلمية المتتالية، والثورة المعلوماتية، التي الغت الحواجز التقليدية واتاحت لافكار جديدة ان تغزو كل حضارة وكل مجتمع. واذا بدأنا باقناع المجتمعات الاسلامية بان التغيير ليس موجها ضدها، فقد يكون ذلك هو المفتاح لمكافحة التطرف والارهاب الناجم عنه، واعدنا لحق الحياة قدسيته من جديد.