Tuesday, November 15, 2005

سوريا بين المطرقة والسندان

منذ بداية التغيير الديمقراطي في العراق، والذي تزامن مع ظهور الحركات التكفيرية و(الجهادية) وما يسمى بـ(المقاومة)، اشارت اصابع الاتهام المرة بعد الاخرى الى الدولة العربية (الشقيقة) والمجاورة للعراق بدعمها لتلك الحركات، علاوة على ايوائها لعناصر النظام السابق الذين لعبوا دورا مهما في التمويل والتخطيط للهجمات المسلحة في انحاء العراق كافة. ولكن سوريا انكرت باستمرار تلك الاتهامات، و(فبركت) مسرحيات للتدليل على انها هي ايضا هدف للارهاب، وبالتالي فان من مصلحتها ان تحاربه فضلا عن عدم ايوائه. ولكن المصاديق على ارض الواقع كانت تثبت العكس دائما. فالحكومتان العراقيتان السابقة والحالية، امتلك كلاهما ادلة دامغة على هذا التورط، وسعت الوفود المتتالية الى ايجاد ارضية للتعاون من قبل الجانب السوري استنادا الى التصريحات المعلنة من قبله. وقد وصل الامر الى حد ان يشك المسؤولون العراقيون ان الرئيس السوري لا يعلم ما يدور من وراء ظهره، اذ ليس من المعقول ان تكون سياسية اية دولة بهذا المقدار من الازدواجية بين ما تعلنه من مواقف رسمية، وما تخطط له في دوائر مخابراتها.
ومن ناحية اخرى، فان سوريا لم تخفِ تورطها في لبنان، على المستوى العسكري او المخابراتي، وتحكمها في شؤون ذلك البلد (الشقيق) والمجاور لها. وقامت برفد المليشيات اللبنانية بالمال والسلاح والتدريب بحجة (دعم المقاومة الوطنية).. ولكنها لم تنشأ اية (مقاومة) في الجولان وهي اراضيها المحتلة منذ عام 1967. وعلى مدى عقدين من الزمن آوت وساعدت حركة التمرد التركية بزعامة عبد الله اوجلان، ثم اضطرت الى ترحيله بعد ان حشدت تركيا الجيوش على حدودها مع سوريا في محاولة لانهاء ذلك التمرد والقبض على زعيمه. وكانت لسوريا ايضا مشاكل مع الاردن، الجار العربي الاخر، والتي ادت الى غلق الحدود بينهما لفترة طويلة. ولا ننسى ان حدودها مع العراق بقيت مغلقة فترة تقارب العقدين بسبب الخلاف الايديولوجي بين جناحي حزب البعث الحاكمين في كل من البلدين.
وهكذا يتضح ان لسوريا علاقات متوترة وتدخل في شؤون جميع البلدان المجاورة، ولكنه كان سافرا الى حد كبير في الحالة اللبنانية. وهذا التدخل سبب تذمرا في اوساط القوى الوطنية اللبنانية، والتي سعت الى طرد القوات السورية من الاراضي اللبنانية من خلال الدبلوماسية الدولية، ومجلس الامن. واثمرت تلك المحاولات باصدار القرار الاممي 1559 الذي طالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح المليشيات اللبنانية، خصوصا المدعومة من قبل سوريا.
ولكن سوريا التي انتهجت على الدوام سياسة (حافة الهاوية)، كانت تتجاهل تلك القرارات والرغبة الوطنية اللبنانية، دون ان تتعض من التجربة التي مرّ بها النظام السابق في العراق حين واجه المجتمع الدولي، وقاد ذلك الى سقوطه. والواقع ان السياسة السورية انتهجت نهجا مغايرا، وان كان السيناريو متشابها. فحين احتل النظام العراقي دولة الكويت، وافقت سوريا على ان تكون ضمن القوات المتحالفة لتحرير الكويت، ولكنها لم تطلق طلقة واحدة في تلك الحرب. وهي وافقت كذلك على التفاوض مع (اسرائيل)، وان ماطلت وضيعت الفرص المتتالية لاسترجاع الجولان سلميا. وهي انسحبت من لبنان عسكريا بعد (انتفاضة الاستقلال) التي شهدتها لبنان عقب مقتل الرئيس الحريري، وان ظل شك في بقاء عناصر مخابراتها هناك. فهي تتظاهر انها تفعل ما يراد منها عندما يشتد الضغط عليها، ولكنها تفعل فقط الجزء الاقل اهمية، لتبقى مممسكة بخيوط اللعبة.
والمجتمع الدولي ليس غافلا عن هذه الحقائق. ولكن من طبيعة السياسة الدولية ان تنتظر الفرصة الملائمة. وقد لاحت تلك الفرصة بعد ثبوت تورط العناصر المخابراتية السورية، وبتواطؤ مع عملائها في لبنان، في مقتل رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري. وبدأت القوى الدولية في الضغط على سوريا في نفس الوقت الذي تعرض تلك القضية على مجلس الامن الدولي. وشكل مجلس الامن لجنة للتحقيق برئاسة ميليس. وجاء في تقرير تلك اللجنة انه (يصعب ان يتصور حصول الاغتيال بدون علم سوريا نظرا لتواجدها العسكري والامني في لبنان). وفي محاولة لتسفيه هذا الاستنتاج قال وزير الخارجية السوري لمجلس الامن ان ذلك يعني فيما يعنيه ان الولايات المتحدة متورطة في احداث 11 أيلول، وبريطانيا متورطة في احداث 7 تموز. فاجابه وزير الخارجية البريطاني انه اذا كان يلمح الى اشتراك هاتين الدولتين في اعمال الارهاب التي وقعت على اراضيها، فان عليه ان يقول ذلك صراحة. ولكن الوزير السوري لم يجب بشيء، فالقياس هنا مع الفارق. ان سوريا متهمة في نظر مجلس الامن بخلاف الدولتين الغربيتين، وليس من رد الاتهام القول لماذا لا تتهمون الاخرين؟ وفي خطابه الاخير حمل الرئيس السوري على العراق لعدم تعاونه في منع الارهاب، ولبنان كونها ممرا للمؤامرات على سوريا. وهي ذات السياسة السورية العتيقة، من التنصل واتهام الاخرين بما يتهموه بها.
قد لا يكون ا لسيناريو الذي اسقط صدام سوف هو ما سيعتمد في حالة النظام السوري. ولكن سوريا باتت بين مطرقة مجلس الامن الدولي وسندان الرفض الاقليمي لسياساتها. وبذلك فلن تستطيع ان تستمر في دعم (الارهاب)، ولا التحرش بدول الجوار اكثر مما فعلت. وستضطر، كما اضطرت في الماضي، الى تغيير سياساتها في المنطقة لتجنب الحرب التي ستسفر عن تغيير هذا النظام في سلسلة التغييرات الحتمية. وربما ستؤتى من الحكمة القدر الكافي للاعتراف بالذنب، والسعي الى اصلاح نظامها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.