Tuesday, November 22, 2005

من الحلة الى عمّان.. ارهاب واحزاب

في الثامن والعشرين من شباط الماضي قام انتحاري يقود سيارة مفخخة باستغفال الشرطة المحلية التي كانت تقف على مقربة من العيادة الشعبية في مدينة الحلة، وإلتف من شارع جانبي ليفجّر سيارته في طابور من طالبي التوظيف الذين كانوا ينتظرون خارج العيادة لفحصهم طبيا، مما تسبب في مقتل وجرح العشرات منهم. وافادت التقارير حينها ان هذا الانتحاري هو اردني الجنسية ويدعى رائد البنا، وان اسرته قد تلقت التهاني بـ(استشهاده)، مما ادى الى قيام آلاف العراقيين بالتظاهر في بغداد والمدن العراقية الاخرى. وقد هاجم المتظاهرون السفارة الاردنية في العاصمة العراقية واقتحموا المبنى واحرقوا العلم الاردني، كما طالبوا بترحيل كافة العرب من العراق وشتموا الملك الاردني عبدالله الثاني. وجاء في بيان اصدرته الحكومة العراقية انها "تدين مظاهر الفرح التي ابدتها عائلة الانتحاري الاردني، وان رئيس الوزراء العراقي قد قام شخصياً باستجلاء الموقف من الحكومة الأردنية، معبراً لهم عن غضبه واشمئزازه من هذه الفعلة"، ومضى البيان الى القول: "إن هذا الفعل من شأنه أن يلهب مشاعر أبناء شعبنا تجاه أشقائهم في المملكة الأردنية ويسيء إلى علاقات الاخوة وحسن الجوار." من ناحيتها، اعلنت السلطات الاردنية انها القت القبض على الصحفي الذي كان قد اورد الخبر، لنشره اخبارا كاذبة تسئ للبلاد. كما نشرت الصحيفة التي يعمل الصحفي لحسابها تصحيحا من اسرة البنا تنفي فيه ضلوعه في هجوم الحلة.
وفي التاسع من تشرين الثاني تعرضت ثلاثة فنادق سياحية في عمّان الى هجمات انتحارية، ثبت فيما بعد انها من فعل ثلاثة انتحاريين عراقيين، بالاشتراك مع زوجة احدهم ولكنها فشلت في تفجير نفسها في تلك العملية. وادت هذه الهجمات ايضا الى اصابة ومقتل العشرات من الضحايا الابرياء الذين كان معظمهم يشارك في حفل زواج. وعلى خلفية هذا الاعتداء استقبل رئيس الوزراء الاردني وزير الدفاع العراقي الذي نقل رسالة الى العاهل الاردني من رئيس الوزراء العراقي تتضمن تنديده واستنكاره للاعمال الارهابية التي تعرضت لها العاصمة عمّان. وقال المسؤول العراقي انه يحمل كذلك رسالة تعزية ومواساة من الحكومة والشعب العراقي الى "اخواننا واهلنا في الاردن لان مصاب الاردن هو مصاب للعراقيين". واضاف نحن نشكل ساحة واحدة نتشارك في السراء والضراء وشركاء في مواجهة الارهاب الذي لا يفرق بين مدينة واخرى وبلد واخر. كما اكد وزير الدفاع العراقي ان العراقيين في الاردن هم بين اهلهم وان "اخواننا في الاردن لم يقصروا معهم اما من يسيء الى نفسه واهله فهذا له حساب اخر ولكن ما لمسته انه لا يوجد أي شيء ضد العراقيين الموجودين هنا".
فما الذي تغير بين شباط وتشرين؟ وكيف رُققت لهجة الحكومة العراقية واصبحت اكثر تعاطفا وشعورا بالمسؤولية؟ لاشك انها الحقيقة التي طالما هربت منها، وانكرتها ورفضتها، وهي ان العراقيين هم ايضا يمكن ان يكونوا انتحاريين، وانهم هم ايضا يمكن ان يصدروا ارهابا. فقد كانت العقيدة السائدة قبل تفجيرات عمّان ان ما يحدث من هجمات انتحارية في العراق انما هو من فعل (المجاهدين) العرب المغرر بهم، والذين دخلوا العراق بصورة غير شرعية. والحكومة العراقية كانت تلمح حينا وتصرح احيانا اخرى الى تلقي هذه المجموعات الدعم الخارجي وتدعو بلدان الجوار الى حفظ حدودها.
لا شك ان الكثير من العمليات الانتحارية وغيرها قد تم تنفيذها عن طريق هؤلاء المتسللين. ولا ريب في ان بعض دول الجوار لا تولي مسألة حماية الحدود المشتركة الاهتمام الكافي لاسباب سياسية ولوجستية، وانها ربما تكون ضالعة في تلك العمليات. ولكن ما حدث في عمّان قد كشف الوجه الاخر للقصة، واصاب العراقيين بصدمة جديدة تضاف الى صدماتهم السابقة. والعراقيون لم يستفيقوا بعد من صدمتهم بحكومتهم المنتخبة، وصراعها وتهافتها على السلطة واهمالها لشؤون المواطنين، ولم يفرغوا بعد من قراءة الدستور الذي لم يروه قبل ان يصوتوا عليه، ليجدوا انهم ضحايا حملات التضليل المنظم، وانهم أستخدِموا كأداة في السياسة الداخلية للاحزاب المتنافسة، حتى على حساب العلاقات الدولية وما يمكن ان ينتج عنها من تداعيات قد لا تحمد عقباها. فالذين اججوا المظاهرات ودفعوا الجموع الى اقتحام السفارة واحراق العلم الاردني، مستندين الى اخبار لم تثبت صحتها، لم يخرجوا لاظهار التعاطف مع ضحايا تفجيرات عمّان والتي ثبت انها من فعل عراقيين. كيف وهم إنما دفعتهم الى اتخاذ ذلك الموقف اجندة سياسية معينة لم تعد خافية على الشعب العراقي. وقد كان الاولى، قبل القاء التهم جزافا وتأليب الرأي العام، ان يتم التحقيق في جريمة الحلة وغيرها، باستخدام الوسائل التقنية المتاحة، لتحديد هوية المعتدي ومن يقف وراءه. ولكن يبدو ان بعض السياسيين في عراق اليوم لم تعد تهزهم التفجيرات اليومية، ولا سقوط العشرات من القتلى والجرحى، ولا ثكل الارامل ويتم الاطفال. فهؤلاء غرّهم الكرسي والمنصب والجاه كما غرّ صداما من قبل، ولا عجب!!