Wednesday, August 02, 2006

تأملات في خطاب المالكي للكونغرس

توجه رئيس الوزراء نوري المالكي بخطاب الى الكونغرس الامريكي يوم 27 تموز الماضي. وفي هذا الخطاب شدد رئيس الوزراء على الدور الامريكي في العراق، وطلب المساعدة من الجانب الامريكي سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وكان محور الخطاب يدور حول الحرب على الارهاب ودورها في اقامة نظام ديمقراطي في العراق. وتطرق المالكي ايضا الى اوجه التقدم في الساحة العراقية بعد تحريره من براثن الدكتاتورية، ولكنه لم يذكر في الواقع تقدما حقيقيا سوى اجراء الانتخابات البرلمانية وان اكد على حصول تطور في الاقتصاد وعلاقة العراق مع الدول المجاورة قياسا مع الوضع في زمن النظام السابق.
ومن المفهوم ان رئيس الوزراء وهو يتكلم في حضرة الكونغرس الامريكي لابد ان يشدد على الحرب على الارهاب، غير انه لم يذكر استراتيجيات حكومته في هذه الحرب. لقد اعاد ذكر كلمات ارهاب وارهابيين في خطبته حوالي عشرين مرة، شاملا بذلك احداث 11 ايلول في الولايات المتحدة، ومحاولا ان ينفي ارتباط هذه الاحداث بالاسلام بوجه. وذلك صحيح، ولكنه عفى عليه الزمن واصبح من نافلة القول. فلم يعد الكونغرس او الشعب الامريكي، او الرأي العام العالمي بحاجة الى مزيد من التوضيح بهذا الشأن.
والامر ذاته يتكرر مع محاولة المالكي بيان ان حقوق الانسان ليست تراثا غربيا وانما توجد لها جذور في العالم الاسلامي مستشهدا بآيات من الذكر الحكيم تؤيد ذلك، ولست ادري ما الذي يريد ان يثبته المالكي بذلك. الارجح انه يحاول ان يهدأ من روع الحكومة الامريكي في كون الاحزاب الدينية قد تولت السلطة في العراق، والخطر المحتمل من ذلك على المصالح الامريكية. ولكن اذا كانت الادارة الامريكية قلقة بهذا الشأن فما الذي جعلها تمضي وتصر على تلك الانتخابات في الاصل؟ كان على رئيس الوزراء ان يثبت ان الحزبية –السياسية والدينية- في العراق هي عامل تطور ونمو في الحياة السياسية.
وهو تطرق الى المليشيات المسلحة في فقرة متعجلة قائلا: "الامر الآخر الذي يعيق الاستقرار في العراق هو وجود المليشيات المسلحة لقد قلت في اكثر من مناسبة تصميمي على حل كل المليشيات دون استثناء وحصر السلاح بيد الدولة وضمان الامن للمواطنين، حتى لا يحتاجوا الى آخرين للدفاع عنهم." ان اي مراقب للوضع الامني في العراق يعلم جيدا ان تلك المليشيات بدأت تأخذ دورا جديا على كافة الصعد. ولكن المالكي يعامل هذه المسألة كما لو كانت مجرد (اعاقة) في استقرار العراق، وليست احد الاسباب الرئيسة في عدم استقراره. وكل ما استطاع فعله هو التحدث عن تصميمه المتواصل على حل المليشيات، دون ان نرى في الواقع اية اشارات على هذا التصميم.
وفي فقرة غريبة يدعي المالكي ان عدم الاستقرار الامني انما هو في مناطق محدودة وسط العراق. ربما هو لا يقرأ نشرات الاخبار يوميا، او انه لا يعتبر انفجار لسيارة مفخخة في كركوك، او العصور على جثث في واسط، او المواجهات المسلحة بين الشرطة ومسلحين في الديوانية، او مقتل قدامى البعثيين في كربلاء، او نشاط فرق الموت في البصرة، وسيطرة المسلحين المتطرفين على الموصل، لا يعتبرها خروقات امنية تضع تلك المدن وغيرها على لائحة عدم الاستقرار الامني. ناهيك عن المآسي التي تعيشها مدن بغداد وبعقوبة والرمادي نتيجة المواجهات المسلحة ذات الطابع الطائفي، والنشاط الاجرامي والارهابي، وعمليات المتعددة الجنسيات. غير ان الشيوخ والنواب الامريكيين الذين استمعوا له وصفقوا له لابد انهم يعرفون هذه الحقائق جيدا.
في تقديري ان المالكي اراد تقديم صورة اقل قتامة ان لم نقل وردية عن الوضع العراقي للكونغرس، وكأنه احد المسؤولين الامريكيين في العراق، وليس القائد المنتخب (نظريا) لهذا البلد. ربما يعود ذلك الى رهبة الكونغرس، او الى الرغبة في مجاملة ممثلي الدولة التي تمثل الحليف الاول (والوحيد احيانا) للعراق. لكن الارجح انه اراد احالة الامور الى الكونغرس بدلا من توليها بنفسه. ودلالة ذلك انه يطلب المساعدة في اعادة الاعمار، مؤكدا على المناطق التي كانت "مهملة لفترة طويلة من الزمن، هذه المناطق كانت الاكثر حرمانا في زمن النظام السابق وكانت الاكثر بسالة في جهاد العراقيين من اجل الحرية"، وهي كما هو واضح مناطق وسط وجنوب العراق والتي صوتت للقائمة التي اتت به للحكم، وبذلك يكون اخلى مسؤوليته تجاه ناخبيه!
ولم يدع المالكي خطابه ينتهي بدون ان يقدم وعدا: "ثقوا بان العراق سيكون مقبرة للارهاب والارهابيين دفاعا عن الانسانية في كل مكان." وهو وعد يفوق طاقة الحكومة العراقية والشعب العراقي، وليس مطلوبا على الاطلاق. فالانسانية تملك مقومات الدفاع عن نفسها في كل مكان، ولن يكون على العراقيين ان يخوضوا حربا نيابة عن الجميع.

Wednesday, July 26, 2006

من المسؤول عن الفوضى الامنية؟

يجب الاقرار بأن ما يجري اليوم في العراق من احداث مأساوية، من قتل وتفجير وتدمير وتهجير وما سواها، لم يكن ليخطر على بال احد، حتى اكثر الناس تشاؤما. كما ان المستقبل القريب على الاقل لا يبدو انه يحمل اية بشائر للحد من هذه الاحداث او انهائها. وفي الحقيقة فاننا كلما تعودنا على نمط معين من العنف ظهر علينا نمط آخر ليثير فينا الرعب والاشمئزاز ويدفعنا الى التساؤل عن جدوى ما يحصل ودورنا فيه.
ومن غير المعقول ان مثل هذا الخلل الامني يمكن ان يصب في مصلحة اي احد او اي طرف يعمل ضمن الساحة السياسية العراقية طالما ان ذلك يعني ببساطة انه انما يحتمي بالنار التي ستحرقه لاحقا. نعم، قد يكون هناك البعض من الذين ذهبت عقولهم وغابت عنهم ملكة الادراك بما يمكنهم من فهم هذه الحقيقة، ولكنني واثق ان هذا البعض هو من القلة بحيث لا يمكن ان يكون هو المحرك وراء كل ما يحدث.
ومن غير المعقول ايضا ان تعمل قوى الاحتلال على خلق مثل هذه الظروف الشاذة، حيث انها احد المتضررين الرئيسيين منها. فالعبوات الناسفة والقذائف الصاروخية ومدافع الهاون وغيرها انما تستهدف دوريات ومعسكرات التحالف بالدرجة الاولى، وان وقع ضحايا بين المدنيين نتيجة لها. كما ان المصلحة العليا الامريكية تتمثل في اقامة نظام (ديمقراطي) في العراق بعد اسقاط نظامه السابق. وحينما انجزت الانتخابات الماضية وتم تشكيل الحكومة بموجبها، فان الهدف المعلن قد تم انجازه. وكان يمكن للحكومة المنتخبة ان تطلب من قوات الاحتلال الرحيل لولا شعورها بان الوقت غير مناسب لمثل هذا الطلب. في الواقع سعت الحكومة العراقية الى تمديد بقاء هذه القوات عبر مجلس الامن لانها لا تعتقد انها قادرة على حفظ الامن، ولو بالحد الادنى، بدون مساندة ودعم القوات المتعددة الجنسيات.
اذا من هو المستفيد من بقاء الظرف الامني الحالي على وضعه او حتى جعله اسوأ يوم بعد يوم؟ ان هذا السؤال هو الاصعب على الاطلاق. فالاجابة الاولية ربما تكون بتوجيه الاتهام الى دول الجوار حيث ان لكل منها مصلحة ما في تدهور الاوضاع في العراق على كافة الصعد، وليس على الصعيد الامني فحسب. فبقاء الوضع المتفجر في العراق، مع وجود نقاط تفجر اخرى في المنطقة كلبنان وفلسطين والصومال والسودان حمل اسعار النفط الى مستويات قياسية لم تكن ضمن حسابات حتى الدول المصدرة للنفط. واذا كان الوضع غير المستقر في العراق بالتحديد سببا رئيسا لهذا الارتفاع، فما الذي يحفزالاقطار الخليجية على السعي لاحلال الاستقرار فيه، وهي المستفيدالاول –ماديا- منه؟
وهناك من يتهم ايران في التدخل بالشؤون الداخلية في العراق، يقابله دفاع مستميت بان ايران انما تسعى لحماية مصالحها في المنطقة، تماما كما تتدخل امريكا في العراق لحماية مصالحها الاقليمية. غير ان الدفاع عن سوريا ربما يكون اقل حدة مع توافر ادلة على احتوائها لعناصر مسلحة وفلول النظام السابق ومساعدتهم لوجستيا وماديا في تنفيذ الاعمال التخريبة في العراق. اما تركيا، فهي لاتظهر كثيرا في سلسلة الاتهامات، لكنها حاضرة لكل ما يتعلق في امكانية قيام دولة كردية عند تخومها، الامر الذي لن تسمح به مطلقا، ولو اضطرت الى استخدام القوة العسكرية لمنعه.
ولا يخلو الامر من اتهامات مباشرة او غير مباشرة لاسرائيل او (الكيان الصهيوني) على اساس انها تضمر الشر والعداء لكل الدول العربية والاسلامية وبالاخص للعراق. بل انها تسعى للانتقام من الخزي الذي لحق بابنائها من جراء السبي البابلي الشهير والذي وقع قبل ما يزيد على خمسة وعشرين قرنا، او لالهاء العرب والسلمين عن دورهم في قيادة العالم.
والحق ان كل تلك الاتهامات لا تخلو من صواب، وان لم تكن كل الصواب. فالتدخل الاجنبي سبب الفوضى الامنية الراهنة، ولكن هذا التدخل لم يأت الا عن طريق اهل البلد انفسهم. فالذين يسمحون او يسهلون او يساعدون على توفير السلاح والاموال المقدمة من دول الجوار الى العصابات المسلحة هم من يجب مسائلتهم الان. وسواء كانت هذه الزبانية في جحور مخفية، او متربعة على كراسي السلطة، تجب المبادرة الى تشخيصها وعزلها واستئصالها اذا اريد احلال الامن والاستقرار في هذا البلد المبتلى. ولن يفيد العويل والنحيب والقاء اللوم على الاجنبي اذا كنا غير قادرين على كبح مواطنينا وايقافهم عن الحاق الاذى بالشعب العراقي. وبدلا من الاشارة الى دول الجوار، علينا قطع دابر من يوفر لها ارضية لتحقيق مصالحها على حساب المصلحة الوطنية العليا.

Wednesday, July 19, 2006

تحريم الدم العراقي.. على من؟

ترردت في الاونة الاخيرة مصطلحات مثل (المصالحة الوطنية) و(تحريم الدم العراقي) وما سواها في محاولة لايجاد حلول للمشكلة الامنية المستفحلة، والانعكاسات الخطيرة لهذا الخلل الامني الفاضح على وضع البلاد سياسيا قبل ان يكون امنيا، بالاضافة الى احتمالات الحرب الاهلية او النزاع الطائفي طويل الامد. والواقع ان هذه المحاولات قد لا تجدي نفعا اذا كان الهدف منها ايجاد حلول وقتية او اتفاقات سطحية لاظهار تقدم ما في المعركة مع الارهاب والتدخل الاجنبي. كما ان الظرف الامني الراهن في منطقة الاوسط ككل ينذر بالمزيد من العواقب على المنطقة باسرها مع امكان ان تستغل الاراضي العراقية كمواقع للتدريب والتخفي وانطلاق العمليات.
ومن ناحية اخرى يتوجب علينا تعريف اسباب الخلل لكي نستطيع اقتراح الحلول الناجعة. وهذه المهمة قد تكون غاية في الصعوبة كما هو متوقع. لكن هناك مظاهر معينة للاعمال التخريبة والارهابية والتي يمكن ان ترسم صورة، ولو شبحية، لطبيعة الجهات التي تقف خلفها. ومن الضروري الاشارة الى ان جميع فئات ومكونات الشعب العراقي هي ابعد ما تكون عن التأثير في تلك المتغيرات، ولكنها تستدرج في بعض الاحيان وتدفع للتفكير بالطريقة التي ترسمها لها جهات مغرضة، وان يكن ذلك لفترة وجيزة فقط.
ومن مظاهر الخلل غير الخافية سهولة تسلل السيارت المفخخة وزرع العبوات الناسفة على الطرق الخارجية وحتى الشوارع الداخلية في المدن الاهلة بالسكان. ومنها تحرك المسلحين بيسر وقيامهم بعمليات الاغتيال المنظمة للشخصيات والكفاءات العملية او الرموز السياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية، وكذلك التعرض لحياة المواطنين بالاستهداف العشوائي او القتل على الهوية الطائفية، والتهجير القسري. يضاف الى ذلك استهداف البنية التحتية للصناعة النفطية والمنشآت الخدمية كالكهرباء والماء وما سواها.
والصورة التي ترتسم لنا من هذه الاحداث لا تبدو وكأن هناك فريقا ما يحاول الحصول على مكاسب على حساب فريق اخر. بل هي اقرب الى هناك ثلة تعمل كل ما في وسعها من اجل تخريب المنجزات التي تحققت بعد سقوط نظام الطغيان وارغام المواطن على العيش في ظل ظروف بالغة الصعوبة بحيث لا يتلمس اثرا لهذه المنجزات. ولذلك فليس من المنصف القول ان السنة او الشيعة هم من يركتب هذه الافعال الاثمة، كما انهم لن يكونوا، كمواطنين لهم رأي فيما يحدث، سببا لها. ولا يختلف اثنان على ان السلطة الحالية تمثل تمثيلا عادلا الى حد ما لفئات الشعب المختلفة، بغض النظر عن السلبيات التي رافقت تشكيلها. لذلك فمن المستبعد ان تعمل فئات في السلطة على احداث مثل هذا الخلل الفادح في الناحية الامنية للحصول على مكاسب سياسية لن تحصل عليها في كل الاحوال.
على ان الصورة الاشمل لمنطقة الشرق الاوسط قد تعطي ايضاحا اكثر حول طبيعة ما يجري في الساحة العراقية. فقد تصادف ان يقع العراق بين جيران اقل ما يقال عنهم انهم قلقون على مصالحهم بشدة، ان لم نقل انهم يشعرون بالتهديد الجدي لزوال انظمتهم الاستبدادية. وقد كانت خطوة اسقاط صدام بمثابة جرس الانذار الذي ما انفك يرن منذ ثلاثة سنوات محذرا من خطوات مماثلة. والتدخل الاجنبي في العراق هو السبب الرئيس للخلل الامني فيه. ولولا الاسناد اللوجستي والعسكري والمالي الذي تقدمه دول الجوار للمسلحين في العراق لما استطاعوا ان يديروا معركة بمثل هذا الحجم. واكاد اجزم ان هناك دوائر مخابراتية اجنبية كاملة واجبها يتمثل بالتخطيط للعمليات المسلحة بشكل ربما يكون يوميا.
غير ان ذلك لا يعني ان اطرف السلطة بريئة تماما من هذه التصرفات. فبعضها يتلقى دعما مباشرا او غير مباشر من اجل غض النظر او حتى مساعدة العصابات المسلحة في تنفيذ مهامها. ولا يخفى دور الفساد السياسي والمالي والاداري في تسهيل مهمة المسلحين، علاوة على غياب او تغييب الدور الشعبي بين ثنايا التنازع المحموم على السلطة. لذلك فمن غير المنطقي الحديث عن المصالحة الوطنية في بلد ليس فيه خلاف وطني حول اي شيء على المستوى الشعبي. وحتى على المستوى الرسمي لا يمكن ان يكون الخلاف قد وصل الى درجة الدعوة الى السلاح. فمعظم القضايا محل النزاع يمكن حلها ضمن قبة البرلمان وطاولات الحكومة.
اما الدعوة الى تحريم الدم العراقي فهي ليس اكثر من دعاية جوفاء. فالدم العراقي محرم شرعا وقانونا وعرفا، ولم يكن هناك على مدى التاريخ مسوغ لاهداره. فالطوائف المتنوعة في العراق تحترم بعضها البعض منذ القدم، ولم يطرأ ما يمكن ان يغير هذه الحقيقة. وارى ان مثل هذه المؤتمرات التي تدعو الى مثل هذه التحريم مجرد محاولة للتنصل من المسؤولية القانونية للسلطة في حماية الشعب وبناء اقتصاده ورسم صورة زاهرة لمستقبله. بدلا من ذلك يجب تشخيص الدور الاجنبي واجباره على النكوص. واذا كان هناك من تحريم او خطوط حمراء فانما يجب ان توجه الى الدول التي تريد حماية مصالحها او انظمتها عن طريق تحويل العراق ساحة لمعاركها وشعبه حطبا لها.

Wednesday, July 12, 2006

انفاق لندن والتعطش للسلطة

كثيرا ما يتساءل الناس عن السبب الذي يدفع مجموعة من الشباب الى تنفيذ عمليات انتحارية ضد اهداف مدنية في الغالب، في الولايات المتحدة او اوربا او مصالح ومنشآت تابعة لهما في اماكن اخرى من العالم. وقد حاولت مقالات وبحوث وتحقيقات صحفية عديدة تحليل الظروف المحيطة بكل عملية وتجميع الاسباب التي ادت اليها وبالتالي فقد خرجت معظمها متفقة على بضعة امور وصفتها بانها هي عماد نظرية الارهاب العالمي.
من هذه الظروف المحيطية الشعور بخيبة الامل والاحباط في المجتمعات التي يعيش فيها الشباب من الجيل الثاني من المهاجرين. فحينما يهاجر الاباء من اوطانهم الاصلية تبدأ الروابط بالانقطاع تدريجيا معها، وحينما يرزقون باطفال في وطنهم الجديد فانهم يصبحون مواطنين لتلك الدول، مع ابقاء اواصر ضعيفة الى اوطان ابائهم. فاذا حدثت لديهم نكسات اقتصادية او غيرها فانهم يرجعونها الى كونهم مواطنين درجة ثانية وانهم ربما سيكونون احسن حالا لو كانوا في اوطان ابائهم. ولكن الواقع الذي يشاهدوه يدل على عكس ذلك، فمهما تكن طريقة عيشهم غير مناسبة، فهي تبقى افضل من عيش اقرانهم في بلدانهم الاصلية. وهنا ينشأ البحث عن السبب في التعاسة لدى مواطنيهم ولديهم. واخيرا تتحول خيبة املهم في حكومتهم الى نقمة عليها، ويخف شعورهم بالوطنية وتتقوى لديهم النزعة القومية وان كانوا غير قادرين حتى على التكلم بلغة ابائهم الاصلية في بعض الاحيان.
لكن اقدام اربعة شباب من جنسيات اصلية مختلفة الى وضع اربعة قنابل في مترو لندن وحافلاته قبل عام (السابع من تموز 2005) لم يكن فقط لهذا السبب. فهؤلاء لا يعتقدون باحقية القوانين البريطانية عليهم وان كانت الدولة تجود عليهم بالمنح بما يكفي معيشتهم. وهم لم يكونوا في وضع مزرٍ يدفعهم لتصرف يائس، ولكنهم وقعوا في شراك دعاة تبرقعوا برداء الدين وتستروا بعباءة التقوى وغلقوا الابواب خلفهم. لقد دُفعوا الى اتخاذ موقف تجاه قضايا لم يكونوا طرفا فيها بحال من الاحوال، وهذا الموقف كان –للاسف– نهائيا. والحال نفسه ينطبق على منفذي هجمات 11 ايلول في نيويورك وواشنطن، وهجمات قطارات مدريد، والمصالح الامريكية في افريقيا.
وبناءا على ذلك، فان الهجمات الدموية غير المبررة لدينا والمستهجنة كليا من معظم الديانات السماوية والارضية، والتي الحقت ضررا كبيرا بصورة الاسلام في الغرب والشرق على السواء، لم تكن تهدف الى ارسال رسالة حول الظلم الذي يقع في اجزاء معينة من العالم، ومنها العالم الاسلامي، بل الى استغلال الشباب المحبط واقناعه بعدالة القضية. في المقابل يزداد رصيد القادة الذي يجندون مثل هؤلاء الشباب ويعلو شأنهم بصورة ما. ولذلك فهم لا يكترثون لمن يرسلون للموت، او بنتائج تلك العمليات الوحشية وتأثيرها على صورة الاسلام، بل وحتى الاساس الشرعي لها. ان كل ما يهمهم هو الحصول على المزيد من السلطة وان كانت في الظل.
وفي الحقيقة فان الامر قد يتعدى مسألة الجهاد ضد (الكفار) في الغرب ليتخذ شكلا من التعنت السياسي والايديولوجي في نفس البلدان الاسلامية التي تقدم دعما، بشكل او بآخر، للقضايا القومية. فالسعودية تقدم اموالا طائلة للفلسطينيين ولكنها ليست بمأمن من هجمات المسلحين. والدعم السياسي المصري غير خافٍ، وكذلك الهجمات على المواقع السياحية المصرية لتحطيم مصدر الدخل القومي واضعاف الحكومة قدر المستطاع. واستهداف الاردن، البلد الذي يحتضن اكبر جالية فلسطينية، من قبل الجماعات المسلحة لهو خير دليل على ان القضية الفلسطينية ليست هي غايتهم، بل ان ما يسعون اليه هو خلق سلطة موازية لسلطة الدولة كمقدمة للاستيلاء على السلطة فيما بعد.
ان كل ذلك يقودنا الى الحالة العراقية الراهنة والى سبب عدم احترام حقوق الشعب وخياراته، بل وارهابه وتكفيره وتهجيره. ففي العراق تعمل نوعان من الجماعات المسلحة. الاول هو الذي لا يكشف عن وجهه بينما يعيث فسادا بانتظار تحول الامور الى الفوضى الشاملة ومن ثم يظهر الى السطح في امارة طالبانية منقذة ومستبدة تحم بامر الشرع كما تراه. اما الثاني، وهو الاخطر، فهو القوى المسلحة التي تسفر عن وجهها في نفس الوقت الذي يكون لها ذراع في السلطة، بدعوى مقارعة القوى الاولى. وتلك الجماعات لها امتدادات خارجية واضحة، وهي لا تخجل منها بالمرة، بل تبررها بالبعد القومي او الايديولوجي العقائدي. وفي كل الاحوال يكون افراد هذه الجماعات، شأنهم شأن افراد الجماعات التي تنفذت عمليات مسلحة في الغرب، مجرد شباب محبط ومستغفل يعمل لخدمة سادة يظهرون لهم التواضع وكراهية الحياة الدنيا على غير حقيقتهم الطامعة في التسلط والتسيد باي ثمن.

Wednesday, July 05, 2006

إرزيج شارع المكتبات

(1)
في زاوية صغيرة بركن الشارع الصاخب، انزوى (إرزيج) هاربا من تهكمات كثيرة، بعضها مازح واغلبها خبيث، جلس يجتر احزانه بحدبته المشوهة التي جعلته اضحوكة بين اقرانه وحرمته من العيش بسلام. كان يتفكر، رغم ضحالة عقله، في سبب اختلافه عن بقية خلق الله، ويتمعن في ما قاله له الشيخ محمد قبل ايام من ان الله عادل اذا اعطى الانسان شيئا أخذ منه شيئا في المقابل، وان لا احد كامل،
وان اهون النقص نقص الجسم لا العقل، وغير ذلك مما يريح الاعصاب من التفكر والتمعن الطويل. وبينما هو في تأمله الحزين اذ به يسمع صيحات تناديه فيهب واقفا ويتطلع حوله ليكتشف ان احد اصحاب المحلات في شارع المكتبات يناديه ليجلب له كوبا من الشاي. يهرول الى المقهى ليحضر الشاي مارا في الذهاب والاياب بنفس الاشخاص الذي هزءوا به قبل دقائق. لم ينبس احدهم ببنت شفة، وتجنب هو النظر اليهم او الكلام معهم. عاد الى زاويته منتظرا امرا اخر. هكذا كان يكسب قوته ويمضي نهاره. وربما يحصل في الصيف على قطعة ثلج من دكان الحاج موسى يضعها في كوزه عندما يعود الى بيت عمه في التعيس. او يجود عليه الحاج رفش شتاءا بقطعة من الحلاوة الدبسية اللذيذة والتي تحتوي على سعرات خيالية. وتمضي ايام وفصول شارع المكتبات. من مكتبة المعارف الى تسجيلات صوت الحب، يتوسطها محل بقلاوة الحاج صادق الشكرجي. ومن ترويقات ابن الماشطة الى مديرية الجنسية مرورا بمقهى ابو عامر ومحل الحاج محمد سعيد ابو البسامير. بنايات تـُهد واخرى تقام، وناس يموتون واخرون يولدون. شارع المكتبات الذي كان زاخرا بها لم تعد فيه سوى مكتبة الفرات لصاحبها المرحوم الحاج مهدي السعيد، لازالت عامرة باولاده وان كانت خالية تقريبا من (الكتب).
(2)
في زاوية صغيرة من شارع المكتبات الذي استحال الى شارع الكهربائيات العادية، وباعة الرصيف الذين استحلوا الشارع ايضا، وبعضا من المطاعم التي تتصدرها سماعات صوتية ضخمة وهي تصدح بالاناشيد الحسينية او التعزيات في كل اوان تقريبا، استوى (إرزيج) على بسطة لبيع القداحات الغازية الرخيصة، يتقلب من جانب الى آخر هاربا من اشعة الشمس اللافحة في حزيران، منتظرا حلول المساء ليأخذ غلته الى اطفاله الذين اخذوا يتضاعفون كل عام دون ان يجد لذلك حلا. فهو لا يتحمل مسؤولية من انجب فقط، وانما من انجبهم اقرباؤه الذين حصدتهم العمليات الانتحارية والعبوات الناسفة والاغتيالات شبه المنظمة، او الذين جاءوا هاربين من (المناطق الساخنة) وصاروا لاجئين في وطنهم. مالت الشمس قليلا خلف عمارة غفار الشهيب لتأذن بالرحيل، واحتشد الناس في شارع اللامكتبات لاقتناء آخر فقرات التسوق لهذا اليوم. جلس الى بسطيته وقرر انه سوف يرحل بعد ان ينتهي من استنشاق سيكارته، فكر ان قد دخن اكثر قليلا من العادة، قال في نفسه: اليوم انا ضجر.. سوف اقلل من التدخين غدا.. ان شاء الله. فتح الصندوق الذي يجمع فيه نقوده ليعد الوارد، وهو يفعل ذلك مرة واحدة فقط في اليوم، عندما يقرر العودة الى البيت. بدأ يعد: واحد، اثنان، ثلاثة... بوم!! لم يعد (إرزيج) موجودا، ولا ندري مقدار (الدخل) في ذلك اليوم.
(3)
في زاوية صغيرة من القمر الاصطناعي الذي يتربع فوق الارض، كان هناك برنامج في قناة فضائية عن الحياة والموت والتاريخ والجغرافيا في العراق. عرضت القناة (إرزيج) وهو يُحمل على عربة لنقل البضائع. لم يتبق منه سوى اشلاء متناثرة ولكنهم عرفوه حتى بدون تحليل الحامض النووي، فمن بين البقايا تلك الحدبة الاليمة التي أنبأت بحياة تعيسة، ولم تتوقع الموت الاتعس. القمر الاصطناعي كان باردا كالصقيع وكذلك مذيع القناة الاخبارية التي لم تكترث لشيء اكثر من ذكر عدد الضحايا، وكلما كان اكثر كلما كان الخبر اهم. قال مخرج البث: سوف يكون تسلسل هذا الخبر في المقدمة، الضحايا كثيرون! القمر الاصطناعي يدور بسرعة دوران الارض حول نفسها فلا يشعر بالحركة، وكذلك مذيع القناة الذي ظل يردد نفس الخبر طيلة الليل واليوم التالي، وفي كل مرة يظهر (إرزيج) محمولا على عربة نقل البضائع، وفي التعليق تقرأ: "عبوة ناسفة في شارع المكتبات جنوب بغداد توقع العشرات من الضحايا"، حتى اسم المدينة لم يعد مهما، رغم ان سكان الحلة يُعدون بقدر سكان واشنطن العاصمة. كل شيء اضحى موقعا على الخارطة او رقما في سجل الضحايا. ولم نعرف كم كان يعيل (إرزيج) ولا كم كانت غلته.

Wednesday, June 28, 2006

شكرا سيادة الوزير

في مقابلة مع تلفزيون العراقية مساء الثلاثاء، 20 حزيران، طلع علينا السيد وزير النفط هادئا قريرا بشوشا، يتكلم عن شؤون الوزارة بكل ثقة واطمئنان، حتى يخيل اليك ان مشاكل النفط المزمنة سوف تـُحل بعد دقائق وليس ايام او اشهر. وبشـّرنا بان انتظار ساعة او ساعتين قرب محطات تعبئة الوقود هي –للاسف، على حد تعبيره– امر اعتيادي لدى العراقيين. ولا بأس فهم ألفوا شمس الـ45 درجة مئوية ظهرا، وغياب الكهرباء، والوقوف في الدور. فبعد ذلك كله ما احلى النوم في الليلة القائضة تحت مروحة تديرها مولدة تعمل بالبنزين الذي حصلوا عليه ظهر ذلك اليوم. وغدا يوم جديد.
وزير النفط الواثق و(الحازم) حسب ما يريد ان يقنعنا في تلك المقابلة ليس بمقدوره وقف المراكب البحرية العاملة في مجال صيد الاسماك من تهريب المنتجات النفطية الا عن طريق الزامهم بتسليم السمك الذي اصطادوه الى الاسواق المحلية، ولا ادري كيف سيكون ذلك ومن سيدقق في هذا الامر. هل سيكون ذلك بجلب ايصال من (علوة بيع السمك)؟ ام بان يجعلهم يقسمون على المصحف الشريف؟ في الحالتين قالوا للحرامي احلف...!!
وهو إتهم، في خروج غير معتاد على الاعراف الدبلوماسية، كل من سوريا وتركيا بشراء النفط الاسود المهرب وامتناعها عن شرائه من الحكومة العراقية مباشرة. ولكنه اقر بعد ذلك ان المقاولين الذين تعاقدت معهم وزراته قبل ان يتربع على عرشها هي التي وضعت الاسعار (الرخيصة) لهذه المادة قياسا الى الاسعار العالمية لضمان انسيابية التكرير، حيث ان تراكم هذه المادة في احواض الخزن يؤدي الى توقف التكرير، لحين تصريفه والتخلص منه. وبالتالي فليس مستغربا ان تقوم الدول المجاورة بشرائه من المقاولين وليس من الحكومة العراقية. ولم يوضح لنا السيد الوزير كيف يَعتبر من يشتري رسميا من الدولة وفق عقد اصولي مُهربا؟ بيد انه بنى على اعتباره الشخصي هذا قرارا آخر بالغاء العقود الاصولية لهؤلاء المقاولين وفرض زيادة قسرية على الاسعار. ومن الطبيعي ان يظهر الامر وكأنه حفاظ على المصلحة الوطنية، ولكن ايقاف تكرير النفط لعدة ايام (وربما اسابيع) لاجبار المقاولين على الرضوخ، دونما اي اعتبار لانقطاع المنتجات عن الاسواق المحلية نتيجة لذلك، لا يدل على حرص شديد او حكمة بالغة، ناهيك عن طريقة فرض السلطة لقرارها على المواطن وان كان مقاولا. ان هذا الاجراء يذكرنا بممارسات سابقة خلنا انها باتت تاريخا لن يعود، بل ما الفرق في ذلك عن قرار سلطة البعث المنحلة في السبعينات بتأميم النفط؟ اليس الدافع –ظاهريا– في كلتا الحالتين واحدا؟
على ان السيد الوزير الذي لم يتورع عن اتهام دول الجوار (من الشمال والغرب) بتشجيع التهريب رغم ضعف الدليل الذي قدمه، اكتفى بـ(معاتبة) الجارة الشرقية التي تحمي هؤلاء المهربين في مياهها الاقليمية ومن الواضح ان هناك ادلة دامغة على ذلك. ولعل هذا ما استدعى مقدم البرنامج الى الاستدارك بقوله للوزير: "عتاب ام احتجاج؟" ولست ادري كيف يستطيع مسؤول بهذا المستوى ان يكون على هذا القدر من ازدواج المعايير.
لكن اكثر ما اسفت له وانا اشاهد هذه المقابلة التي دامت اقل من ساعة، هو تجريحه وهجومه على جريدة وطنية دون ان يُسمّها بالاسم. فقد نشرت هذه الصحيفة الرصينة خبرا على صفحتها الاولى عن زيادة اسعار المحروقات، مسندا الى مسؤول عالي المستوى في الوزارة وهو السيد حسين محمد البحريني مدير عام توزيع المنتجات النفطية بعد ان اجرت اتصالا هاتفيا معه. وجاء في نص الخبر الذي نشرت تلك الصحيفة في عددها الصادر يوم 19 حزيران: "اوعز وزير النفط الدكتور حسين الشهرستاني ببدء تطبيق الاسعار الجديدة للمشتقات النفطية بعد اجتماع اقرت خلالها التسعيرة الجديدة. وبموجب ذلك حدد سعر البنزين العادي بـ(175) ديناراً بدلاً من (150) دينارا للتر الواحد والبنزين المحسن بـ (250) ديناراً والذي تتزود بموجبه 90% من محطات الوقود، اما سعر لتر البنزين المستورد فحدد بـ (350) ديناراً. في حين بلغ سعر لتر الكاز (125) ديناراً بدلاً من مئة دينار والنفط الابيض (75) ديناراً للتر الواحد بدلاً من خمسين ديناراً واسطوانة الغاز السائل بـ (1000) ديناراً للقنينة الواحدة. اما السعر التجاري بمبلغ (1500) دينار في المحطات المخصصة لبيع المنتجات بالسعر التجاري."
فقد نفى الوزير بدءا اية زيادة في الاسعار متهما صحف "مغرضة.. داعمة للارهاب.. الخ" بالوقوف خلف ذلك. وهو لم يشر الى الصحيفة بالاسم، ربما تفاديا لمواجهة مع القانون، ولكنه قال ان تلك الجريدة نشرت مقابلة مع مسؤول في الوزارة "وقمت باستدعائه حول هذا التصريح فقال لي انه لم يدل باي تصريح".
ولكنه في سياق المقابلة تحدث عن انشاء محطات وقود جديدة بواقع محطة واحدة في كل محافظة واربعة في بغداد تقوم ببيع البنزين المستورد فقط وبسعر 350 دينارا للتر الواحد. وهو رغم نفيه لاية زيادة في البنزين المحلي اقر برفع سعر البنزين العادي الى 175 دينار للتر الواحد. وعلى هذا فلسنا بحاجة الى ان نسأل مدير عام توزيع المنتجات النفطية للتأكد من صحة التصريح، فقد أكد لنا الوزير كل ما ورد في الخبر المنشور.
لست بصدد تحليل كل ما ورد في المقابلة، ولا يتسع المكان لذلك. ولكن يبدو ان سيادة الوزير كان لديه موقف تجاه مقاولين وصحف ودول، وهو يحاول ان يعمل بناءا على ما قناعاته السابقة دون النظر والتمحيص في ما تكشف له حينما تسنم المسؤولية. ولا اجد هذه الطريقة فعالة من الناحية الادارية على الاقل. لكن تلك هي احدى عواقب وضع باحث في مجال الطاقة النووية، وغير مختص اطلاقا في المجال النفطي، وزيرا لاهم وزارة في العراق من ناحية استحواذها على الثروة الوطنية، او الحاجة المحلية لها.
واخيرا لابد ان اشكر سيادة وزير النفط على تفضله بتوضيح ما كان غامضا لدى الكثيرين، ومنهم الكاتب. فقد كنا نتساءل هل يمكن ان توجد لدى الوزير حلول شبه سحرية، او معجزات خارقة، للخروج من نفق ازمة الوقود التي تسبب بدورها ازمات اخرى كثيرة. وبالنسبة لي فقد عرفت الجواب.

Wednesday, June 21, 2006

ديمقراطية عصب الاعين

بعد مرور اكثر من ثلاث سنوات على تحرر العراق من قبضة الاستبداد، لا يجد الكثير من الناس اثرا حقيقيا لمثل هذا التحرر. لاشك ان هناك منجزات قد تحققت، بدءا من الحصول على الحرية –وان جاوزت الحد في بعض الاحيان– ومرورا بتحسين الوضع المعاشي لفئات واسعة من الشعب، وانتهاءا بخوض الانتخابات الديمقراطية الاولى في تاريخ العراق الحديث.
غير ان كل هذه المنجزات مرت بمراحل عسيرة وتضحيات جسيمة، وجاءت في كثير من الاحيان اقل من التوقعات، مما افقدها قيمتها واهميتها. واذا كانت هناك اصوات اخذت تعلو في المقارنة بين وضع العراق الان وفي فترة حكم النظام السابق، فان خيبة الامل الشعبية جعلت لتلك الاصوات صدى يتردد بين الاذان واجبرتها على الاصغاء. خيبة الامل لم تكن نتيجة فقدان الامن وحده، او العجز عن توفير الحد الادنى للحياة الكريمة للشعب، وانما في افتقاد الروح الوطنية سواء بين الاحزاب السياسية عموما او بين الشخوص السياسية.
لقد طغى خطاب الطائفة والعرق على خطاب الوطن والمصير المشترك. وسادت الساحة السياسية مشادات ومناورات ظاهرها خدمة مصالح الناخبين (بالمعنى الاضيق)، وباطنها الحصول على اكبر قدر من المكتسبات الشخصية. وبات المواطن في حيرة من امره، فهو اول من يُستثار وآخر من يُستشار! ترى كم خرج في مسيرات ومظاهرات واحتجاجات، وكم حصل بناءا على ذلك من مكتسبات؟ لا نجد مثالا واحدا على ان هناك من يستمع لمطالب الشعب، مهما كانت صاخبة. لكننا كثيرا ما نرى قادة هذا الشعب يستعملون تلك المطالب وسيلة للحصول على مآربهم، في المنصب والجاه، وربما الثراء ايضا.
لقد وجدت الحضارة في ارض الرافدين قبل اكثر من ستة الاف عام. تلك الحضارة توزعت في ثلاث مناطق رئيسة: سومر وبابل وآشور. وشكلت هذه المناطق في واقع الامر اجزاء العراق الرئيسة، ومجموع حدودها هو حدود العراق في غالب الاحيان. والعراق هبة الرافدين والارض الخصبة التي يحتضناها، وهو قام بهما ولهما. وفي العصر الاسلامي كانت البصرة والكوفة كلاهما عراقا حتى انجبتا بغداد عاصمة العالم المستنير لسنوات طويلة. وبسقوطها على يد التتار سقط العراق. وباحتلالها من قبل الاكليز أنجز احتلال العراق. وعلى مدى هذا التاريخ كان العراق واحدا في سنوات المجد والعلياء، او عند غوصه في العصور المظلمة. لم يكن هناك عراق شيعي وسني. لم يكن هناك عراق عربي وكردي. لم يكن العراق يعرف بطائفة او قومية.
ولكن ستة الاف سنة من الوحدة مهددة اليوم بالتقسيم، ليس لان ذلك ما تخطط له الامبريالية العالمية للاستيلاء على نفط العراق. وليس لان ذلك لعبة مخابراتية من دول الجوار لافشال مشروع امريكا في نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط. كما انه ليس لان الارهاب التكفيري يريد تصفية الحسابات الاقليمية والدولية على ارض العراق. السبب في ذلك هو مجرد رغبة الوصول الى السلطة والاحتفاظ بها لدى مجموعة من السياسيين الطموحين الذين لم يكن يفكر ايا منهم قبل الغزو الامريكي بانه قد يكون في مثل هذا الموقع، وبالتالي لم يكن مستعدا. فهم يحاولون ان يعوضوا عن قلة خبرتهم وعدم كفاءتهم في قيادة البلد بكيل الاتهامات الى فيلق الارهاب القادم من بحر الظلمات. وهم يظهرون انفسهم لاحول لهم ولاطول بسبب (مؤامرات) ضد الطائفة او العرق او حتى ضد الحزب والشخصية.
ان الفشل الامني الذريع هو نتيجة حتمية للفشل السياسي الذريع. واذا كان من غير المنصف مقارنة الوضع الامني الان مع الوضع الامني تحت سلطة صدام، فان ذلك فقط اذا كان الخرق الامني يتأتى من اتباع صدام. لكننا نرى اليوم ان من يهدد الامن ربما كانت احزاب لها حضور واسع في السلطة. واذا كان نظام صدام في الماضي يشكل تهديدا لكل مواطن سواء بالاعتقال او التهجير والنفي والتقتيل، فان هناك اليوم من يقوم بنفس تلك الافعال واكثر من ذلك: "تم العثور على كذا عدد من الجثث في مزبلة في ضواحي مدينة كذا، وهي مصابة بطلق ناري في الرأس ومعصوبة الاعين وموثوقة الاطراف وعليها آثار تعذيب". من العار ان تكون لدينا ديمقراطية وحكام منتخبون، وهم اكثر شرعية من جميع الحكام في المنطقة، ومع ذلك تتكرر هذه العبارة المشؤومة كل يوم او يومين.
نعم، شهد العراق ديمقراطية غير مسبوقة، ولكن غير مشتهاة كذلك. فالعراقيون اليوم يساءلون هل ان الديمقراطية تعني توزيع الثروات بين الاحزاب؟ وهل ان مناصب الحكم هي حكر على شخوص بعينهم؟ وهل ان شهوة الكرسي اهم من نزيف الدم اليومي الذي يسيل تحت اقدام هؤلاء الحكام، فداءا لبقائهم في السلطة؟ والى متى يموت الناس معصوبي الاعين بعد عاشوا معظم حيواتهم معصوبي الاعين؟ اية ديمقراطية تلك التي تجرد الناس من كل شيء لاجل نفر من السادة المتنفذين الذين نادرا ما يتوجه احدهم بخطاب ولو للمواساة عن هذا الكرب اليومي؟ الى متى؟

Wednesday, June 14, 2006

موت الزرقاوي نهاية الارهاب الاجنبي

بمقتل الزرقاوي، داعية العنف الاول والمحرض على الفتنة الطائفية، لابد ان تتغير طبيعة الموقف الامني في العراق. هذا التغير ينبع من طبيعة الخلل الامني من ناحية المسببات والنتائج. وقد صرح الكثير من السياسيين والقادة العراقيين والامريكيين بما يفيد ان موت الزرقاوي لا يمثل نهاية للعنف في العراق، وذهبوا الى انه يجب عدم المبالغة في التفاؤل حول تأثير غياب هذا الارهابي الدولي، غير العراقي والمنبوذ في وطنه على المستوى الرسمي والقانوني على الاقل.
غير انني اجد مقتل الزرقاوي حدثا نوعيا ستنعكس نتائجه مباشرة على اعمال العنف التي تصاعدت بشكل خطير خلال السنة الماضية. فقد اشتملت الخروقات الامنية اليومية على جميع ما دعا اليه زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، الابن غير الشرعي لتنظم القاعدة الذي يقوده المطلوب رقم واحد عالميا اسامة بن لادن. ومن المعلوم ان الرجلين لم يكونا على وفاق حتى اعلن الاول بيعته للثاني في محاولة لاكتساب رضا اتباعه واظهار نوع من وحدة المواقف واعطاء صبغة عالمية ذات تنظيم مركزي للمنظمة الاشهر عالميا.
وليس خافيا ايضا ان الزرقاوي كان مشروعا صداميا استدرجه ورعاه ووفر له الملاذ الامن قبيل زواله، ربما باعتقاد انه سيساعده في الحرب الوشيكة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. ولكن مثل جميع حسابات الطاغية الاخرى كان ذلك عملا ينطوي على قصر نظر وتهور واضحين. فقد اعطى وجود الزرقاوي في العراق دافعا آخر لحكومة الولايات المتحدة لشن هجومها على هذا النظام الفاسد، بل وقدمت ذلك الى مجلس الامن كاحد الادلة على تعاون نظام صدام مع منظمة القاعدة، التي تعرضت الى اشد الادانات الدولية منذ احداث 11 ايلول. واذا كان مجلس الامن لم يتخذ قرارا يبيح فيه الحرب، فلم يكن ذلك يعني الحرب سوف لن تقع.
وطيلة اسابيع الحرب الثلاثة، تعرضت معكسرات الزرقاوي في شمال العراق والتي كانت تعرف بانصار الاسلام الى قصف مركز، في محاولة امريكية للحد من تأثير هذا الفصيل المتطرف قبل ويعد ازاحة النظام البائد. وقد نجحت فعلا في تحييد عمل تلك المنظمة اثناء الحرب، مما سهل مهمة القضاء على الزمرة الصدامية. لكن تحييد التنظيم شيء، والتخلص منه شيء آخر. وربما وعى تنظيم الزرقاوي، والصداميون المقربون منهم، ان تلك الحرب لن تأتي ابدا لصالحهم، وانهم خاسرون لا محالة. فهم قد يخسروها في شهر او شهرين او ثلاثة اذا لم يكن باسبوع او اسبوعين او ثلاثة، مهما بذلوا في السجال. وعلموا ايضا ان بقاءهم في العراق وتحكمهم بمصيره لن يكون بالدخول في العملية السياسية والخضوع لارادة الشعب مع كل الجرائم التي ارتكبوها بحقه. لذلك قرروا ان ينحنوا للعاصفة ويختبئوا حينا ليعيدوا تنظيم صفوفهم ريثما تنجلي الغبرة وتتضح طبيعة الامور لديهم وبالتالي سوف يتمكنون من فرض انفسهم على الشارع بالطريقة الوحيدة التي يجيدونها.. بالعنف والتقتيل والتدمير والتهجير واستباحة الحرمات وخلق جو الفتنة الطائفية.
قد لا يكون الزرقاوي وحده من خطط لكل اعمال العنف على اختلافها في المحافظات العراقية. لكن وجوده وقيادته واشرافه كان له الدور الاكبر في معظمها. وهي لا تأخذ منحا ثابتا على طول الخط، بل تميل الى التغيير في الاستراتيجيات بين حين واخر. فمرة تتصاعد وتيرة السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريون، وتارة يتزايد خطف المواطنين العشوائي وقتلهم بوحشية مقصودة، وهكذا. وهذا التغيير يدل على عدم وجود خطة واضحة وهدف يعمل من اجله هذا التنظيم سوى اثارة الرعب والفزع لدى المواطنين. والزرقاويون وان كانوا غير محسوبين على اية ملة، الا انهم اتخذوا عدوا لهم الاغلبية الشيعية في العراق اضافة الى الكثير من السنة الذين اعتبروهم متخاذلين. وذلك ليس نابعا عن موقف ديني او مجرد تطرف اعمى مبني على قناعة ضيقة. بل على العكس من ذلك، فقد اعتقلت القوات العراقية والامريكية العديد منهم بمختلف مستوياتهم وكانوا من كلتا الطائفتين على السواء. ان استعداء السواد الاعظم للشعب العراقي لم يكن الا لتبرير القتل العشوائي الذي يقوم تنظيمهم بارتكابه. فلو حصروا هدفهم في قوات الاحتلال لما استطاعوا ان ينالوا شيئا يذكر. وفي الواقع ان الخسائر التي اوقعوها في القوات الامريكية لم تكن لتصل الى ما وصلت اليه لولا اضطرارها الى محاربتهم جنبا الى جنب مع القوات العراقية لمنعهم من الامعان في تقتيل وتهجير ابناء هذا الشعب.
وفي كل ذلك لم نكن نسمع او نرى غير شخص الزرقاوي. ومنذ رسالته الاولى عبر الانترنت مرورا بتسجيلاته الصوتية وانتهاءا بشريطه المصور الدعائي، لم تظهر اسماء لقادة اخرين، رغم انه كان يتوقع (الشهادة) وبالتالي كان ينبغى ان يفسح المجال لاعضاء تنظيمه بالظهور. ولكن هذا التنظيم الارهابي الذي غزا العراق في غفلة من الزمن، شأنه شأن النظام الفاسد الذي رعاه، كان يعتمد على رأسه، فان زال هذا الرأس او سقط تهاوى التنظيم وتلاشى.

Wednesday, May 31, 2006

هل يملك المالكي شيئا؟

وسط الفوضى الامنية التي تعيشها البلاد، وتفاقم الازمات بكافة انواعها، الاساسية والخدماتية، الامنية والترفيهية، الاقتصادية والسياسية، الثقافية والاجتماعية، مع هذه الازمات وغيرها لابد ان يثار السؤال: ماذا يستطيع المالكي، رئيس الوزراء الجديد، ان يقدم وكيف له ان يغير او يحسن من هذه الازمات ويحدث فرقا؟
الواقع ان هناك اجابتان عن هذا السؤال. الاجابة الطويلة تبدأ بيوم سقوط بغداد وخروج العفريت من القمقم، مرورا بتدخل دول الجوار، ووجود قوات الاحتلال، وليس انتهاءا بالصراع الطائفي والمحاصصة ودولة الدويلات التي تأسست في العراق. اما الاجابة القصيرة فهي ببساطة لماذا علينا ان ننظر الى شخص ما، المالكي ومن قبله الجعفري ومن قبله علاوي، لكي يحل لنا كل مشاكلنا ويوفر لنا كل ما نريد؟
قد يكون السبب في ذلك اننا تعودنا ان نحصل على الاشياء واصلة الى باب الدار. بل اننا تعودنا ان تقوم الحكومة برفع نفاياتنا من باب الدار، وكان من الصعب على الدوام ان ننتقل الى اقرب حاوية لرميها فيها. اننا بذلك لا نختلف كثيرا عن باقي الامم، سوى اننا نعتقد بان توفير المتطلبات الاساسية للشعب هو واجب الدولة بدون مقابل منا. اما الامم الاخرى، سيما المتحضرة منها، فتدرك جيدا ان المواطن له حقوق وواجبات. تلك الحقوق رسمها الدستور بدقة بالغة، ولم يعترض عليها احد ولم يناقشها احد. اما الواجبات فهي ضائعة بين دور الدولة ودور المواطن. وسبب هذا الضياع هو قبل كل شيء غياب سلطة القانون.
لقد غاب القانون عن ثقافة الشعب عهدا طويلا، قد لا نذكر له اول. واستبيح ما تبقى من القانون تحت سلطة نظام صدام الجائرة حتى لم يعد له من معنى سوى خدمة النظام وازلامه. وادى هذا الغياب الى غياب معنى الالتزام بالقانون والاحتكام اليه، بل ومعنى ضرورة تشريعه لدى شرائح واسعة من المجتمع العراقي. وقاد ذلك كله الى العودة الى الاصول العشائرية وحل النزاعات بالطرق التي كانت سائدة قبل عصر الكهرباء والهاتف والمذياع.. قبل عصر الانترنت والموبايل والستلايت.
ومع غزو ادوات الحضارة تلك لهذا البلد الامن، تشعبت الرؤى وتاه الصواب في زحمة الصوابات الكثيرة التي تعرضها قنوات الجزيرة والعالم والمنار، او الضلالات الكثيرة التي يجلبها القمر الاوربي. دخول للحضارة لم يكن الشعب الذي قرر الاعتكاف قليلا مستعدا له تماما. وبدلا من ان يتنسم هواء الحرية انطوى الى ركن العزاء بدعوى الحرمان المزمن. وعوضا عن المضي قدما لتحرير الشعب من عبوديته وحرمانه، عمد بعض من جاء مع تلك الحضارة في ركب التحرير الى تركه سادرا في ظلماته، وعزفوا على وتر الطائفة والملة وما سواها.
للاجابة عن سؤالنا لابد ان نتسائل اولا هل يستطيع اي احد اليوم ان يحدث فرق في العراق؟ اخذاً في الحسبان ان المواطن لا يعتبر نفسه مسؤولا عن اي شيء، فالاجابة ستكون كلا. وعليه لن يستطيع المالكي، شأنه شأن الاخرين، ان يحدث اي فرق. ذلك كله على اساس ان من يتصدى لموقع القيادة يفترض ان الناس تدرك ما يعنيه ذلك، وتعرف بالضبط ما الذي يتحمله المواطن وما على الدولة ان تفعل. اما اذا كان مثل هذا الشعور بالمسؤولية غير متوفر لدى الشريحة الاوسع من الشعب، فان دور القائد يختلف.
نحن اليوم لسنا بحاجة الى توفير خدمات اساسية، ماء وكهرباء ووقود، وانما في حاجة الى ادراك اننا نحن من يوفر تلك الحاجات بمساهمتنا في حمايتها ومنع التخريب، وفي الانضباط الوظيفي واحترام القانون. وطالما كان الشعب يرى مسؤوليه وقادته انفسهم غير مهتمين بتلك المباديء فلن يكون لديه محفز للالتزام بها.
المالكي يملك مفتاحا لكل المشاكل اذا استطاع ان يطرح السجالات السياسية والصراعات الطائفية والنزاعات على المناصب جانبا وان يتوجه الى الشعب، مصدر السلطة وسببها. اذا كان على المالكي ان يفعل شيئا فعليه ان يضع الشعب امام مسؤوليته من خلال اشراك مباشر، وليس من خلال ممثلين ادعوا انهم يمثلوه، واستخدموا اردية شتى للفوز بالانتخابات، التي لم يفهم منها الشعب غير انها وسيلة لتوفير متطلباته الاساسية. يملك المالكي شيئا كثيرا ان حرك بصيرته بدلا عن بصره، وان غض الطرف عن ما يسمى بالاستحقاقات (الانتخابية) ليتحول الى المواطن مصداق هذه الاستحقاقات وغيرها.

Wednesday, May 24, 2006

طوائف.. محاصصة.. مناطق نفوذ

بعد خمسة اشهر من اجراء الانتخابات منتصف كانون اول الماضي، وبعد شهر من تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، استطاع المالكي ان يقدم وزارته، وسط احتجاج قائمة الحوار الوطني وآخرين، وغياب قوائم اخرى عن التشكيلة الوزارية، وفراغ مواقع الوزراء الامنيين. واذا كان لهذه المعطيات من معنى، فانها يمكن ان تفسر على ان كل شيء يسير في العراق على الحافة او قريبا منها.
فحكومة الوحدة الوطنية ضمت وزراء من قائمة الائتلاف (الشيعي) والتحالف (الكردي) وجبهة التوافق (السنية). وهذا يبدو غاية في الروعة، فالمكونات الرئيسة الثلاث للشعب العراقي اصبحت تشارك في صنع القرار وتنفيذه. لكن هذه الصورة الوردية سرعان ما ستبددها الايام والوقائع. فالعجز عن الاتفاق على من يتولى وزارات الدفاع والداخلية والامن الوطني انما يشير الى عدم القدرة على الاتفاق على اهم القضايا الحيوية. والشعب انما يتطلع الى تشكيل تلك الحكومة من اجل توفير ولو القدر الادنى من الامن. لذلك فان استمرار النزاع حول تلك الوزارت هو دليل على ان قادتنا ليسوا فوق النحل والملل، وانهم انما يعملون من اجل نيل اكبر حصة في الحكومة، سواء في المجلس النيابي، او في السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس ونوابه ورئيس الوزراء ونوابه ووزارئه.
ويقال لنا ان المرشحين لتلك الوزرات سوف يتم تقديمهم خلال ايام، وهذا امر عجيب. فاذا كانت فترة الشهر (او بالاحرى الخمسة اشهر) غير كافية لتسميتهم، فكيف نتوقع ان تكون فترة ايام قليلة كافية؟ ولماذا يتم الاتفاق على كل الوزرات الاخرى وتترك اهمها لما بعد مصادقة البرلمان (الشكلية)؟ والاعجب من ذلك ان يتولى كل من رئيس الوزراء ونائبيه مهمة ادارة احدى تلك الوزارت، بدلا من ان يتولاها الوكيل الاقدم الحالي، الذي هو مجرد تكنوقراط يعمل على تسيير امور الوزارة لحين تعيين وزير لها.
ان تشكيل الوزراة هو امر جيد على كل حال. فمن الضرورى المضي قدما في العملية السياسية رغم كل الهفوات التي تعترضها، والتي يبررها البعض بانها نتيجة سوء فهم او عدم خبرة في الديمقراطية. ولكنني اعتقد بان سوء الفهم وعدم الخبرة هما اقرب الى المواطن البسيط الذي خرج تحت تهديد الاحزمة الناسفة ومدافع الهاون ليدلي بصوته، ظنا منه بان ذلك هو نهاية لمعاناته وبداية لتحقيق تطلعاته. سوء الفهم وعدم الخبرة ليسا موضوعا لهؤلاء القادة الذين حالما تسلموا دفة الحكم ابتعدوا عن الشعب، وصاروا يستعملون امال المواطنين وسيلة للبقاء في السلطة، وبعضهم استخدم موارد الشعب وسيلة للثراء.. والاسوأ من ذلك ان منهم من كان ولائه للاجنبي اكثر من ولائه لتربة وطنه.
كان يجب ان اكون اكثر تفاؤلا بهذا الحدث، الذي هو في الواقع يشكل منعطفا في تاريخ العراق. وقد كنت كذلك الى حين تقديم التشكيلة الناقصة امام البرلمان الناقص باجراءات ناقصة. وفجأة رأيت منعطفا آخر احسب ان العملية السياسية سوف تسلكه بلا رجعة. ذلك هو ثلاثية (شيعي-سني-كردي) في كل مفصل من مفاصل الدولة، وفي كل مستوى. ربما كان احتمال تقسيم العراق مطروحا في نفس اليوم الذي تحررت فيه بغداد من الاستبداد. ولكن المراهنة على حصول ذلك كانت ضعيفة بسبب طبيعة الوشائج الاجتماعية والتكامل الاقتصادي في المجتمع العراقي. يضاف الى ذلك ان الوحدة السياسية العراقية كانت دوما تحت ظل حكم علماني، وان كان طاغيا احيانا.
اما اليوم فان التقسيم بات امرا واقعا ليس على اساس جغرافي، وانما على اساس مناطق النفوذ. فالشيعة يتولون مسؤولية الامن الداخلي والسنة يتولون مسؤولية الجيش بينما الاكراد يمثلون العراق في المحافل الدولية. ولم تستطع الحكومة الجديدة من وضع مفاهيم جديدة تتعلق بتوزيع للحقائب يعتمد على القدرات الشخصية اولا، والسيرة الذاتية، والولاء للوطن. ما استطاعت ان تفعله هو تثبيت مفاهيم المحاصصة الطائفية والحزبية التي ميزت مجلس الحكم السابق واصبحت صبغة العملية السياسية في العراق.
قد يقدم المالكي مرشحيه للوزرات الشاغرة خلال ايام وقد لا يفعل. والامر سيان طالما انه لم يفعل ذلك في نفس يوم تقديمه للحقائب الوزراية الاخرى. قد لا تكون هناك دولة لكل طائفة، ولكن من المؤكد ان ممثلي هذه الطوائف سوف يحولون مناطق صلاحياتهم في دولة المحاصصة الى مناطق نفوذ، او قلاع يستحيل على غيرهم توليها، او حتى النظر من خلال اسوارها فضلا عن سبر اغوارها تحت عنوان الشفافية الحكومة، هذا العنوان الذي سيفقد معناه تدريجيا، كما خبت من قبل معاني اخرى مثل الانتخابات الحرة، والمشاركة في صنع القرار، وحرية التعبير عن الرأي.

Wednesday, May 17, 2006

ماذا على المالكي ان يواجه؟

بعد اكثر من اربعة اشهر على خروج الشعب لانتخابات ظن انها خلاصه من المحن المتوالية، انعقد مجلس النواب في جلسة كاملة بعد ان عُلقت الجلسة الاولى لمدة شهر كامل. وبعد سجالات كثيرة، واخذ ورد، وشد وجذب، تم اعادة انتخاب طالباني رئيسا للبلاد، مع نائبيه السني والشيعي، وانتخاب رئيس البرلمان سنيا بنائبين شيعي وكردي، وتسمية رئيس الوزراء الشيعي الذي عليه الان ان يشكل (حكومة الوحدة الوطنية) المرتجاة خلال اقل من ثلاثين يوما ليعرضها على البرلمان للمصادقة، او في حالة فشله في ذلك، يصار الى تسمية مرشح آخر خلال خمسة عشر يوما.
وربما عتب عليّ البعض استخدامي وصف الطوائف بدلا من الخطاب الوطني الموحد، واعتبار الكل متساوون في الحقوق والواجبات طالما كانوا منتمين لتربة هذا الوطن العزيز. وذلك صحيح تماما، لولا ان الاحزاب السياسية وممثلو الشعب في البرلمان لا ينفكون لحظة في تذكيرنا به. وهو واقع ان اغمضنا اعيينا عليه فلن نجني سوى المزيد من الجهل. هذا الواقع ربما لم يكن ملموسا بشدة تحت حكم الطائفة الواحدة، ويأس الطوائف الاخرى من امكانية المشاركة الحقيقية خلال فترة عقود من الزمن. لكن اليوم اختلف الوضع، واصبحت نتائج الانتخابات اوضح بيان على التوزيع الطائفي والقومي مقابل الانتماء للعقيدة الوطنية.
ولعل هذا هو بالضبط ما سيواجهه جواد المالكي في مسعاه لتشكيل الحكومة. وهي لن تكون سوى حكومة استحقاقات انتخابية وان غـُلفت بعبارات الوحدة الوطنية، والمشاركة الجماعية، وغيرها. والحق ان ذلك هو روح الديمقراطية من بعض الوجوه، وهو تحقيق لمباديء العدالة والمساواة. ولكن توزيع المناصب القيادية يجب ان لا يخضع لقواعد الاستحقاق الانتخابي بشكل صارم. فإلى جانب ذلك يجب ان تتوفر عناصر الموازنة الطبيعية للمنصب، وهي الاستحقاق الشخصي، اي كفاءة صاحب المنصب، بالاضافة الى الاستحقاق الوطني، وهو انتماء المرشح الى الوطن قبل انتمائه الى طائفة او عرق او مدينة. بل ان انتماءه للوطن يجب ان يقدم على الانتماء للحزب الذي جاء به الى السلطة.
وما سيواجهه المالكي لن يكون سهلا بالمرة. فهو عليه ان يوفر متطلبات الاستحقاقات الثلاثة في حكومته ليضمن مرورها في مجلس النواب وقبولها شعبيا، والاهم من ذلك امكانية استمرارها. ولكي يستحصل موافقة مجلس النواب على تلك الحكومة فمن الواضح ان على المالكي ان يعطي كل كتلة في البرلمان (حصة). واذا قيل ان تلك محاصصة مرفوضة، قلنا اصبح هذا الكلام قديم، وصار اسم المحاصصة الان (الاستحقاق الانتخابي). ونظرة على توزيع المقاعد البرلمانية بين الكتل، تعطي لمحة على طبيعة توزيع الحقائب الوزراية المقبلة. لقد حصل حزب الدعوة والتيار الصدري على منصب رئيس الوزراء، ولهذا فمن المستبعد ان يحصل اي منهما على اية وزراة (سيادية). في المقابل فان المجلس الاعلى سوف يصر على الاحتفاظ بوزارة الداخلية. والكتل خارج الائتلاف سوف تطالب بجميع الوزارت السيادية، بضمنها الداخلية. وستكون العقبة الاشد هو كيفية اقناع المجلس الاعلى للتنازل عنها، او اقناع الكتل الاخرى بالعدول عن هذه المطالبة. قد يحتفظ التحالف الكردستاني بوزارة الخارجية، لتتأكد القاعدة التي تقول ان العراق بلد عربي يمثله الاكراد والا فانهم سينفصلون لانهم لم يحصلوا على حقوقهم في وطنهم الكبير.
اما وزارة الدفاع فستكون عقدة هي الاخرى. فالسنة العرب قد يرغبون في الحصول عليها، ولكن لانها تعمل بشكل مستمر تحت مظلة القوات متعددة الجنسيات، فهي ليست (سيادية) بالقدر الكافي. كما ان الاحزاب الشيعية لم تكن يوما مهتمة بها لانها في نهاية الامر ربما الوزارة الوحيدة الاحترافية، والتي بقي منتسبوها خارج دائرة الاحزاب والتناحر الطائفي والعرقي. وفي حالة فشل الاحزاب السنية في الحصول على الداخلية، فليس من المستبعد ان تحصل على وزراة الدفاع مع رزمة من الوزارات، السيادية وغيرها. وقد يضطر المجلس الاعلى في سبيل احتفاظه بالداخلية الى تسيلم وزارتي المالية والنفط الى السنة ربما بالاضافة الى الدفاع، ليكون اكبر ثمن يدفع مقابل وزارة واحدة.
بقي ان هناك قوائم شيعية وسنية وكردية غردت خارج سربها. فالقائمة العراقية، وقائمة الحوار الوطني، والاسلامي الكردستاني ليست معبرة بالضرورة عن نفس توجهات الطوائف التي تنتمي اليها. وتلك قد تحصل على وزراة هنا او هناك، ولكن من الصعب الاعتقاد ان ايا منها سوف يحصل على وزارة مهمة. ولكن اذا حافظ السنة على حلفهم مع علاوي، فربما سيكون هو، او احد المرشحين عن قائمته، وزيرا للداخلية. اما الاقليات التركمانية والمسيحية والايزيدية وغيرها، فسوف تبقى في موقف المتفرج على الاغلب.

Wednesday, March 22, 2006

جلسة مفتوحة للبرلمان.. صوم لا ينتهي

أخيرا، وبعد ثلاثة شهور كاملة من الانتظار والترقب، انعقد مجلس النواب في جلسة خاطفة لم تستمر اكثر من 20 دقيقة. ولم يستطع المجلس اكثر من ان يعلن استمرار جلسته مفتوحة، وذلك تفاديا لتطبيق الدستور، الذي تشير المادة (55) منه الى ضرورة ان ينتخب مجلس النواب رئيسه ونائبيه في (اول جلسة). والواقع ان خيبة الامل التي رافقت هذا الاجراء فاقت خيبة الامل والاحباط نتيجة تأخر انعقاد البرلمان وعدم تطبيق مادة اخرى في الدستور (المادة (52)) التي تحتم على رئيس الجمهورية دعوة المجلس للانعقاد خلال خمسة عشر يوما من تاريخ المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات (الذي كان ينبغي ان يتم يوم 25 شباط الماضي).
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن، الى متى يستمر التفسير الكيفي لمواد الدستور، ومن هو المسؤول عن مثل هذه التفسيرات؟ وكيف يمكن اتخاذ اجراء لمنع انتهاك الدستور من اية جهة كانت؟ انها اسئلة صعبة الاجابة، ليست لان اجاباتها غير واردة في الدستور، بل لان الاطراف السياسية المتناحرة اليوم غير راغبة في بحثها او الاهتمام بها.
ان من يقع عليه مسؤولية تفسير مواد الدستور هي ببساطة المحكمة الاتحادية العليا كما ورد في المادة (90) من الدستور (الفقرة 2). وقد حددت المادة (88) اختصاص مجلس القضاء الاعلى بصلاحيات المحكمة الاتحادية. ويقال لنا ان مجلس القضاء الاعلى هو من امضى تأجيل انعقاد المجلس النيابي، بحجة عدم سريان مواد الدستور قبل تشكيل الحكومة كما تشير المادة (139). واذا كان الامر كذلك، كيف مارس مجلس القضاء الاعلى صلاحيته استنادا الى دستور ليس نافذا بعد؟ اما اذا كان قانون ادارة الدولة لازال يُعد ساريا، فان المحكمة الاتحادية العليا هي التي تتولى مسؤولية النظر في دستورية القوانين والاجراءات، وهي مختلفة -حسب هذا القانون- عن مجلس القضاء الاعلى.
على كل حال لم يُعلن مجلس القضاء الاعلى قرارا خاصا بهذا الشأن، بناء على طلب من طرف او اطراف معينة. ولم يكن هذا القرار مبررا قانونيا او دستوريا كما كان ينبغي، بل كان مجرد مشورة (قانونية) قدمت للفرقاء السياسيين الذين يرومون التأخير لغرض اكمال (مشارواتهم) حول تشكيل الحكومة.
ان الاتفاق على جعل جلسة البرلمان مفتوحة او مستمرة الانعقاد هو مجرد تحايل مفضوح وساذج على الدستور. ففي الاعراف البرلمانية يمكن تأجيل الجلسة لفترة محدودة، عادة ما تكون ساعات قليلة. وان تطلب الامر ان تؤجل ليوم واحد فسيكون معنى التأجيل مبالغ فيه، ولكنه يبقى مقبولا. اما تأجيل الجلسة لفترة غير محدودة فيطلق عليه مصطلح آخر وهو (رفع الجسلة). اي اغلاق هذه الجلسة ومعاودة الانعقاد في جلسة جديدة بتاريخ لاحق. والامر يشبه ان تقول ان موعد افطار الصائم هو غروب الشمس، ولكن يمكن التأخير فيه. فهذا لا يعني اننا اذا استقبلنا صائما يمكننا ابقاؤه كذلك مطلقا. بل الواجب ان نبادر الى تقديم وجبة الافطار له باسرع وقت.
ان النية في تشريع اي قانون هو خدمة المصلحة العامة، وحمايتها من المصلحة الحزبية او الشخصية الضيقة. ولذلك تكون نصوص هذه التشريعات مهمة الى حد كبير. وتتزايد هذه الاهمية مع علو شأن هذا القانون، فما بالك باعلى القوانين قاطبة، الدستور؟ ان مهمة تفسيره وبيان معانية مفرداته يجب ان لا تبتسر وتموّه وتستغل لاغراض سياسية، خصوصا مع غياب الثقافة القانونية الشعبية. اذ ان معنى ذلك ان المتنفذين سياسيا انما يقومون على اشاعة الجهل، ويستغلون هذا الجهل لمصلحتهم، حتى مع ادعائهم ان ذلك في مصلحة المجموع. اذ ليس هناك اسوأ من حكومة تقوم على مثل هذه القيم، التي اقل ما يقال عنها انها غير شفافة.
من ناحية اخرى، فان الاجراء الذي تم التوافق عليه بذريعة المشاورات لتشكيل الحكومة، ربما يُعد سابقة يمكن ان تستخدم في المستقبل في مناورات اقل اهمية، ولكن اكثر تأثيرا. على ان تشكيل الحكومة لم يكن يوما مهمة تنجز خارج البرلمان. فمواد الدستور على الاجمال بينت كيفية تشكيل هذه الحكومة والخطوات الواجب اتباعها لانجاز هذه المهمة. ولم ترد كلمة (مشاورات) بهذا الشأن في الدستور مطلقا. لقد كان من الواجب ان يقوم المجلس باختيار رئيسه ونائبيه حسب الاصول في اول جلسة، وقبل ان تغيب شمسها. فاذا كان البعض يود التأخير ساعة بعد الافطار فلا بأس، ولكن ليس من الحكمة في شي ان بقي كل الشعب صائما الى اليوم التالي. فهذا الشعب كان صائما لعقود عدة، كان يحسبُ ان غده سيكون يوم العيد، ولكنه وجد نفسه مبتليا بصوم لا يلوح له افطار.

Wednesday, March 01, 2006

اطوار.. العراق من طور الى طور

نشرت جريدة التايمز اللندنية مقالا عن مقتل الصحفية الشهيدة اطوار بهجت تحت عنوان: "نصف سنية، نصف شيعية.. هدف للجميع". وجاء في مطلع هذا المقال ان اطوار كانت تمتلك كل الصفات لكي تكون محصنة من القتل، فهي نصف سنية ونصف شيعية، امرأة، عراقية، عمرها 30 سنة، من مواليد مدينة سامراء، وهي بعد ذلك صحفية. ولكنها قتلت على كل حال.
ولعل استشهاد الزميلة اطوار ليس الا فصلا وطورا اخر في سلسلة الاطوار الغريبة التي شهدها العراق خلال السنوات الثلاثة الماضية. فمن المقاومة الى العصيان، ومن التمرد الى طاولة المفاوضات، ومن المواجهات المسلحة الى الاعتداء على المقدسات، ومن الاستهداف العشوائي للمدنيين الى التكفير الشامل للاغلبية، ومن تطبيق مفردات الديمقراطية الى الهيمنة على الكراسي الوزارية.. ومن خدمات متردية الى خدمات مزرية الى لا خدمات، من فساد الى افساد.
اطوار العراق غريبة. بلد رزح تحت القهر والحرمان لخمسة وثلاثين عاما او يزيد. بلاد لها ثاني احتياطي نفطي عالمي، ومساحة زراعية تفوق التي لدى اكبر البلدان في الانتاج الزراعي، فرنسا. ونهران يمخران عبابه ينشران الخير يمينا وشمالا، لا يفيضان فيغرقا ولا يشحان فيهلكا. وله من المزارات والاضرحة والمقدسات لدى كل الاديان والطوائف ما يعز على اغلب بلدان العالم. وله من الشواهد الحضارية الموغلة في القدم ما اعجز الوصف وادعى للحسد. ومع ذلك، فما ان تنسم نسائم الحرية حتى سقط في فخاخ عجيبة، وراح ضحية شراك لئيمة. تربص به المغامرون والمقامرون، ومن كانت لديه حسابات مع قوى دولية واقليمية قصد العراق لتصفيتها. وبدلا من يكون (واحة الديمقراطية) اصبح (ساحة الارهاب)، وان كان البعض لا يرى فرقا كبيرا.
اطوار العراق ما كانت لترد على البال. يوم سحل العراقيون صنم ساحة الفردوس، كانت المرة الاولى في التاريخ الحديث التي يُسحل فيها تمثال القائد السابق، لا شخصه. وكان يجب ان تكون تلك البادرة تعبيرا عن طبيعة التغيير المنتظر. ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي المظلومون. فبات البلد نهبا ومستباحا من ابناءه ومن الغرباء، على الارض وفي شاشات الفضائيات.
اطوار العراق ضمت تلك الفضائيات، واشركتها في نقل الاحداث الدامية وغيرها، والمبالغة فيها حد التهويل، بل واختلاق احداث خيالية لاثبات وجهة نظر ضيقة. ثم استخدام هذه القنوات للدعاية السياسية الموجهة التي خلنا اننا قد تخلصنا منها. واخيرا دخول بعض هذه القنوات ضمن قائمة الاهداف الطويلة.
قائمة الاهداف في العراق، ككل شيء في هذا البلد، حاشدة ومنوعة. فالى جانب القوات متعددة الجنسيات، التي طلبت الحكومة المتنخبة بقاءها، احتوت تلك القائمة على الشرطة والجيش سواء من هم في الخدمة او من هم تحت التدريب، وحتى من هم في طور التقديم لا اكثر. وتضم موظفي الدولة ابتداء من رئيس الوزراء نزولا حتى ابسط سائق سيارة يسعى على الطرق الريفية من اجل تيسير شؤون المواطنين. تلك القائمة لم تستثن المدنيين في الاسواق الشعبية، ولا الاطفال والنساء في الاحياء السكنية. وشملت كذلك الحجاج في مراسيمهم الدينية، وفي صلواتهم، بغض النظر عن دينهم ومذهبهم. لم تسلم الكنائس والجوامع والمساجد من الاستهداف، ولم يشفع لها قدسيتها وقدمها وتأريخها. اما الصحفيين، الذين اعتبروا انفسهم رسل الحقيقة، والذين منهم من كان همه كشف المستور وبسط الحقائق، ومنهم من ترك اهله وعياله في هذا السعي المحموم، ومنهم اقتحم مسالك الخطر وركب المنون اعتقادا بقدسيتة مهنته. هؤلاء الذين احبت اطوار ان تكون بينهم، احبوا طوار العراق رغم غرابتها وفرادتها. وبعد ان يأسوا من خلاص يأتي ممن صوت له الشعب، امنوا بان هذا الخلاص لن يأتي الا على يد الشعب نفسه، وانبروا ينشرون الوعي وينقلون الحقيقة كما اتيحت لهم.
لاشك ان الاعداء المتربصين بهذا البلد راهنوا منذ اليوم الاول على اشعال فتيل الحرب الاهلية. ولكن للاسف انصاع لهم الكثير من قادتنا عن وعي او بغيره. فهم لم يعملوا على الوحدة الوطنية بالقدر الكافي، ودخلوا في صراعات ومهاترات سياسية لا اخر لها. وظنوا ان طبيعة الشعب العراقي ووحدة نسيجه كفيلة بمنع هذا الخطر. ولكنهم لم يضعوا في حساباتهم ان الامور قد لا تسير كما يتمنون، وان هناك من يخطط لافشال مسيرة الديمقراطية في هذا البلد حتى لا تصدر الى البلدان المجاورة. وفاتهم ان التناحر يقود حتى اكثر المجتمعات تماسكا الى التفكك.
اطوار العراق كمثل اطوار الشهيدة. براءة تطفأ، وقيم تنتهك، ودماء تستباح، وحقيقة ضائعة. فمن المسؤول؟ والى اين تسير هذه السفينة المتأرجحة بين لجج الموج العاتي. تلك السفينة المتهالكة التي قدر لها ان تحمل اثمن الاحمال، فكانت كما البعير، يحمل ذهبا ويقتات العاقول.

Wednesday, February 22, 2006

سيناريوهات بديلة لرئاسة الحكومة العراقية

اثار الجدل داخل قائمة الائتلاف العراقي الموحد حول تسمية المرشح لمنصب رئيس الوزراء جدلا خارجه ايضا. ففي الوقت الذي رجحت الترشيحات باتجاه الدكتور عادل عبد المهدي على اساس التوافق، قام الائتلاف باختيار الدكتور الجعفري اخيرا بطريق الانتخاب الذي صرح الجميع انه غير مستحب، وانه "قد يؤدي الى تفكك الائتلاف" على حد تعبير بعضهم.
والجدل الذي بدأ يتزايد خارج الائتلاف، بعد ان حسم الائتلاف امره، يدور فيما اذا كان الدكتور الجعفري قادرا على المرور من فلتر مجلس النواب، والحصول على الاغلبية المطلقة المطلوبة لاعادة تكليفه رئيسا للوزراء. وغير خافٍ ان الاغلبية المطلقة هي اغلبية جميع النواب بغض النظر عن من يحضر، اي نصف عدد المقاعد الكلي زائد واحد (138 صوت). وبما ان ايا من القوائم لم تستطع الحصول على هذه الاغلبية، فلابد من عقد صفقات او تحالفات بين القوائم لضمان مرور سلس للحكومة المقبلة امام البرلمان.
ويمكن تقسيم تشكيل الحكومة، حسب الدستور، الى ثلاثة مراحل: اولها انتخاب رئيس مجلس النواب ونوابه، وذلك في اول جلسة تعقد لهذا المجلس والتي يجب ان لا تتاخر اكثر من 15 يوما من تاريخ المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات. ثم يقوم المجلس باختيار مجلسا للرئاسة على اساس اغلبية الثلثين، او التنافس بين اعلى مرشحين ان لم يحصل احد على هذه الاغلبية. وبعد ذلك يقوم مجلس الرئاسة بتسمية رئيس الوزراء الذي عليه تشكيل الحكومة خلال فترة لا تتجاوز الشهر وتعرض على البرلمان للموافقة عليها وعلى برنامجها الوزاري.
وعلى هذا الاساس، فمن الممكن ان تنجز كل من هذه المراحل، نظريا، بدون الحاجة الى عقد اتفاقية مع قائمة الائتلاف، طالما كان بالامكان تشكيل كتلة من جميع الاحزاب والقوائم الاخرى، والتي يمكن لها ان تحقق اكثر من 140 صوتا برلمانيا. وبهذه الاغلبية يمكن ان توزع جميع المناصب العليا بدون الرجوع الى قائمة الائتلاف، وتحويل تلك القائمة ذات المقاعد الـ 128 الى معارضة برلمانية لا يشق لها غبار.
ان مثل هذا السيناريو يطرح بدائل عدة، لا يبدو ان ايا منها له حظ كبير، ولكن نذكرها فقط للمقارنة ومحاولة استشراف ما قد تتمخض عنه الايام القادمة. من هذه البدائل ان تمنح الرئاسة الى جبهة التوافق (طارق الهاشمي)، ورئاسة الوزراء الى التحالف الكردستاني (برهم صالح) ورئاسة البرلمان الى الائتلاف (عادل عبد المهدي، شيخ همام حمودي،...). وفي هذه الحالة يحرم الرئيس الحالي جلال الطالباني من اعادة ترشيحه لدورة ثانية، فاذا اخذ بنظر الاعتبار ان منافسه مسعود برزاني هو حاكم اقليم كردستان لاربع سنوات، فسيبقى الطالباني بدون منصب، او عليه ان يقنع بمنصب نائب الرئيس، وهذا امر مستبعد.
البديل الاخر يكون باختيار الجعفري رئيسا، والطالباني رئيسا للوزراء، والهاشمي رئيسا لمجلس النواب. وهذا الاحتمال يعيد الكرة الى ملعب الائتلاف. فالترشيحات السابقة بنيت على اساس رئاسة الوزراء، المنصب الاكثر نفوذا ضمن النظام الحالي، واذا لم يكن ممكنا الحصول على هذا المنصب للائتلاف، فلن يكون التعويض برئاسة الجمهورية كافيا على الارجح. ان هذه البدائل لم تأخذ موقف القائمة العراقية ومدى تأثيرها في تشكيل تلك الكتلة البرلمانية التي يمكن لها ان تواجه الائتلاف. واذا طرحت هذه القائمة رئيسها الدكتور اياد علاوي مرشحا لرئاسة الوزراء، فسوف لن يتم ذلك الا على حساب حرمان احدى القوائم الثلاث الرئيسة من اي منصب عالٍ. ويبدو من تصريحات صحفية صدرت مؤخرا ان جبهة التوافق تفضل الدكتور علاوي لرئاسة الحكومة، وبالتالي قد تتنازل عن المطالبة بهذه المناصب العليا. وعلى هذا يكون الطالباني رئيسا، والجعفري (او مرشح اخر من الائتلاف) رئيسا للبرلمان.
ان حسم مسألة رئاسة الحكومة قد تتطلب بعض الوقت، لكنها متعلقة كليا باتفاق توزيع المناصب، وتؤثر بشكل عام على توزيع الحقائب الوزراية والمناصب الساندة (نواب رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة)، والوزارات (السيادية). ومهما يكن السيناريو المحتمل، فكلنا أمل ان نتائجه سوف تكون مقبولة لدى الاخرين طالما تمت في ظروف ديمقراطية وتحت سقف البرلمان.

Wednesday, February 15, 2006

تعديل الدستور.. هل تكون له اولوية؟

في حديثهم مع الوكالة الوطنية العراقية للانباء، صرح ثلاثة من النواب في البرلمان الجديد عن موقفهم تجاه اولويات عمل هذا المجلس. فقد اعتبر عدنان الباججي، من القائمة الوطنية العراقية، التعديلات التي يجب ان تجرى على الدستور العراقي أهم ما يجب أن يطرح في اول جلسة للبرلمان بعد اعلان رئيس الوزراء عن منهاجه. وقال.. "ان اعضاء البرلمان سيضعون من ضمن اولوياتهم مشكلات المواطن العراقي المتفاقمة والنقص في الخدمات وتردي الوضع الامني". وأضاف الباججي.. "سنناقش كيفية تطوير الاقتصاد العراقي والنهوض به على نحو يشعر به الجميع". واشار الى "ان مشكلة الكهرباء وتطويرها ستكون ضمن ما يجب مناقشته في البرلمان لانها اصبحت هاجسا يؤرق المواطن العراقي الذي خيم عليه الظلام عقودا من الزمن".
بينما طالب جواد المالكي عضو مجلس النواب أن يكون أول ملف يناقشه البرلمان تثبيت اطر مؤسسات الدولة وأجهزتها. وقال.. "يجب على البرلمان أن يعمل لبناء برنامج وطني للوزارات والمؤسسات الحكومية في الدولة كافة". وأضاف.. "إن هذه الأطر والبرامج الوطنية ستجعل المؤسسات الحكومية تنطلق بثبات لبناء الدولة ومواجهة التحديات في عدد من الملفات ذات الأهمية". واكد على "إن هناك ملفات تحتل اهتماما كبيرا ومن الضروري مناقشتها منها الملف الأمني وملف الخدمات والاقتصاد وهي من الملفات التي لها الأولوية". واستدرك المالكي.. "لكن هذا لايعني إهمال الملفات الأخرى لإنها لاتقل أهمية عن باقي الملفات لكن الوضع الحالي جعل الملف الأمني وملف الخدمات يحتلان الصدارة".
اما مثال الالوسي عضو البرلمان الجديد عن قائمة مثال الالوسي للأمة العراقي فقد اعتبر إن من أولويات عمل البرلمان مناقشة برنامج عمل الحكومة المقبلة بعد تشكيلها. وقال.. "من الضروري أن تقدم الحكومة المقبلة برنامجا تفصيليا عن عملها في المرحلة المقبلة يتضمن خططا وأفكارا عملية وليست أمورا إنشائية لكي يصادق عليها البرلمان". وأضاف.. "إن أمام البرلمان الجديد مسؤولية تفعيل فقرات الدستور إذ إن هناك فقرات معطلة عن العمل في الوقت الحالي كما انه يجب أن يتم تشكيل لجنة لإعادة النظر في الدستور والتي هي مسألة حساسة ولها تأثيرات كبيرة على الوضع العراقي". وبين الالوسي "إن العراق الآن يواجه أزمة مالية كبيرة وهذا ما سبق أن نبهنا إليه فحجم المخصص للصرف يعادل ثلاثة أضعاف ما تستطيع الميزانية تحمله وهذا أمر خطر من الضروري أن يجد له البرلمان حلا".
وهكذا نلاحظ ان الجميع يتفقون على ضرورة وضع اولويات معينة امام البرلمان القادم، وتحديد مسؤولياته ورسم خطة لمساره، بحيث يتم تفعيل دوره بشكل كامل بعيدا عن المحاصصة والطائفية والحزبية المقيتة، والتي تميزت بها –للاسف- الفترات الماضية للمجالس النيابية. ان هذه الاحاديث والتصريحات تكشف عن نوع من الاتفاق على بعض القضايا الرئيسة مثل ضرورة السعي من اجل توفير الخدمات الاساسية للمواطن، ووضع الخطط الكفيلة بتحسين الاقتصاد، وبناء اسس للتنمية الشاملة، وتخطيط الميزانية بشكل سليم.
لكن المالكي بصفته ممثلا للائتلاف العراقي الموحد، تجنب الحديث في مسألة تعديل الدستور، رغم كونها في غاية الاهمية. فبعد ان شهد الدستور مناقشات حادة وتجاذبات كثيرة حول مسائل شائكة، وكاد ان يسقط في الاستفتاء الشعبي لولا حصول اتفاق في اللحظة الاخيرة يقضي باعادة النظر في فقراته جميعا بدون استثناء خلال فترة ستة اشهر من انعقاد البرلمان الجديد، ثم عرضه على الاستفتاء الشعبي مرة ثانية. والواقع ان الكثير من اعضاء الائتلاف يتجنبون الحديث في هذا الموضوع، او يشيرون صراحة الى نيتهم عدم الموافقة على اجراء اي تعديل في الدستور.. خصوصا فيما يتعلق بموضوع الفدرالية، الذي يُعد مفروغا منه لدى الائتلاف، بينما يعتبره آخرون مقدمة لتقسيم العراق.
واذا كانت النية تتجه لمنع بحث الدستور في البرلمان، او عدم اعتباره من الاولويات، فمن المتوقع ان نشهد سجالا عنيفا بين الاطراف المختلفة قد يتطور الى مقاطعات لجلسات مجلس النواب ومظاهرات شعبية، وحتى اعمال عنف غير منضبطة وغير مسؤولة تستغل الموقف لتأجيج النزعة الطائفية، وتغذي الشعور بالتهميش الذي طالما تذرعت به اطراف معينة.
واذا سارت الامور على هذا المنوال، فان الديمقراطية الناشئة في العراق سوف تعاني من انتكاسة خطيرة، تتمثل برغبة الاكثرية في فرض الرأي على الاقلية بغض النظر عما يمكن ان يصيب تلك الاقلية من حيف جراء هذا التعسف. ويجب ان نأخذ بنظر الاعتبار ان هناك نوعان من الاقليات، الاول اقلية تشكل نسبة بسيطة من السكان، ولا تشكل اغلبية في اي بقعة من البلاد. وهذه يمكن ان تمنح وضعا خاصا اذا كانت القوانين التي تسنها الاغلبية لا تنسجم معها لسبب او لآخر. اما النوع الثاني فهو الاقلية التي تكون اقلية ضمن البلد ككل ولكنها اغلبية في مناطقها. وهذه يجب ان لا تمنح وضعا خاصا، لان ذلك يؤدي الى التقسيم لا محالة. والوسيلة الوحيدة لمنع حدوث ذلك ان يصار الى التوافق الكامل بين هذه الاقليات جميعا عند التشريع لضمان ان لا تنفرد به الاغلبية. ومن الواضح ان الاتفاق على الدستور هو على رأس هذه التشريعات، والذي يجب ان يحظى بموافقة ودعم كافة اطياف الشعب العراقي.

Wednesday, January 18, 2006

علم خمس نجوم

في ذروة الحماسة للقومية العربية وظهور حركات تدعو للوحدة بين الاقطار العربية تحقق هذا الحلم لفترة وجيزة بوحدة بين مصر وسوريا.. وكان هناك طموح لتوسيع هذا الاتحاد ليشمل العراق، وعلى اثر ذلك تم اعتماد العلم العراقي بثلاث نجوم لتمثل كل نجمة دولة من دول هذا الاتحاد المفترض. وانهار الاتحاد السوري-المصري ولكن بقيت له اثارا على العلم السوري بدلالة النجمتين، بينما محيت احداهما من العلم المصري. اما العلم العراقي فقد احتفظ بنجماته الثلاث. ومع تغيير الازمان والانظمة تغير تفسيرات هذه النجوم. اذ اعتمد نظام البعث الذي استولى على السلطة عام 1968 شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية واصبحت كل نجمة تشير الى احدى هذه الشعارات الطنانة الرنانة، بغض النظر عن تطبيقها في واقع الحال.
وبعد الغزو الامريكي للعراق وتنصيب مجلس الحكم من قبل الحاكم المدني الامريكي، جرت محاولة خجولة لتغيير هذا العلم ولكنها باءت بالفشل الذريع. وظل العلم الاصلي بنجومه الثلاث مرفرفا على رموز السلطة في كل مناطق العراق باستثناء منطقة كردستان التي ينتمي اليها رئيس جمهورية العراق الحالي، في واحدة من التناقضات الكثيرة التي يحفل بها المشهد العراقي الراهن.
وكالعادة بقي العلم وتغيرت التفسيرات. فمن قائل ان النجوم الثلاث ترمز الى المكونات الرئيسة للشعب العراقي.. ولكن الكثيرين يرفضون هذا التقسيم الطائفي ولا يقبلون بهكذا تفسير خصوصا وان الاكراد لا يعترفون بهذا العلم. بعض الناشطين الديمقراطيين يدّعون ان هذه النجوم ترمز الى مفردات الديمقراطية حسب التعريف الغربي.. حكومة الشعب، تنتخب من قبل الشعب، تعمل لاجل الشعب. ولكن عارضهم آخرون بان هذه الشعارات يجب توضيحها بطريقة اقرب الى فهم عامة الناس، لتصبح مفردات الشفافية والمسؤولية والمحاسبة، او الوطنية والحرية وحقوق الانسان.. وهكذا.
لكن غيرهم يرون ان هناك تغييرات جذرية في حياة الشعب قد حصلت وبالتالي يمكن ان يستمد التفسير من هذه التغييرات. ومن اهمها دخول القنوات الفضائية الى معظم البيوت العراقية، ولذلك فان كل نجمة يمكن ان ترمز الى احد الاقمار الاصطناعية الثلاثة التي تلقى رواجا بين عامة الناس وهي العرب سات والنيل سات والهوت بيرد (سيء الصيت). آخذين بنظر الاعتبار الدور الحيوي الذي تعلبه هذه القنوات الفضائية في رسم ملامح عراق المستقبل من خلال نقل الاخبار المنقوصة او المجتزأة، وبتحليلات كيفية او موجهة من قبل دول او فئات لها مصالح محددة ليست خافية على اللبيب، او بالتحريض على العنف والتقسيم الطائفي.
بينما يرى آخرون قياسا على نفس النهج في رصد التغيرات الطارئة بعد (تحرير) العراق ان الأولى ان تشير نجوم العلم العراقي الى شركات الهاتف المحمول الثلاث، الاثير وعراقنا واسياسيل، باعتبار ان هذه الخدمة رغم عدم توفرها في كثير من الاوقات هي تجاوز لاحتكار الدولة السابق لقطاع الاتصالات، كما انها سهلت التعامل التجاري داخل وخارج العراق وبالتالي ساهمت في توفير السلع للمواطنين، وان استخدمت في تفجير العبوات الناسفة عن بعد، الا ان ذلك يعد مجرد عارض جانبي.
غير ان هناك بعض المراقبين المتطرفين لا يرون الا الجانب المظلم من مرحلة ما بعد السقوط، والمتمثلة بالخلل الامني الفادح، الذي حول العراق الى بلد الخروج عن القانون بعد ان غاب هذا القانون ومن يطبقه عن الساحة. وهؤلاء يعتقدون ان ملامح هذا الغياب يجاب ان يشار اليها في العلم وانتقوا ثلاث مظاهر رئيسة في حياة الشعب، والتي لا يكاد يمر يوم دون ان يحدث واحد او اكثر منها. تلك هي الحزام الناسف، والسيارات المفخخة، والقذائف الصاروخية. ويحتجون ان شكل النجمة نفسه يدلل على حالة الانفجار، ولذلك فهو التفسير الاقرب الى الواقع.
ومع تعدد هذه التفسيرات لجأنا الى احد العرافين والذي شرح لنا اسباب مختلفة للنجوم الثلاث. فقد قال ان كل منها تمثل احدى الحكومات التي تولت السلطة بعد التاسع من نيسان، وهي حكومة مجلس الحكم (التي اعتمدت نظام السلفة في تسليم رئاستها) والحكومة المؤقتة (المقيدة بالاتفاقات المسبقة مع الحاكم المدني) والحكومة الانتقالية (المشغولة بالمحاصصة). وحينما سألناه عن الحكومة الرابعة قال انها ستغير العلم ليصبح اربع نجوم. وتنبأ كذلك بان الحكومة التي ستليها بعد اربع سنوات سوف تعمل على جعل العلم خمسة نجوم اسوة بفنادق الدرجة الاولى حيث سيتمتع المواطن بخدمة لا تقل عن الخدمات المتاحة في هذه الفنادق.

Wednesday, December 28, 2005

الامم المتحدة هي الحَكم في الانتخابات

لم تكن مجمل نتائج الانتخابات الاخيرة مفاجأة كبيرة. فقد كان فوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد متوقعا في محافظات الجنوب والوسط. بل انها كانت تشكل منافسا قويا ورئيسا في مناطق بغداد وبعض المناطق ذات الاغلبية السنية كذلك. فهذه القائمة التي حظيت بتأييد شعبي واسع نجحت في استمالة اغلبية الناخبين من الطائفة الشيعية بعد ان اصدرت المرجعية الشريفة مجموعة من الوصايا في الانتخاب تكاد لا تنطبق على غير قائمة الائتلاف.
وليس مفاجئا كذلك تمكن هذه القائمة من حصد المقاعد البرلمانية منفردة في معظم المحافظات الجنوبية. وهوت امامها قوائم كانت تعتبر منافسا قويا، كالقائمة العراقية لاياد علاوي، والمؤتمر الوطني لاحمد الجلبي، وقائمة الكفاءات لعلي الدباغ، وقائمة مثال الالوسي، وقائمة ليث كبة، وقائمة حازم الشعلان، وقائمة ابراهيم بحر العلوم وغيرها كثير. وبات معظم هؤلاء في انتظار المقاعد التعويضية للحصول على مقعد او اثنين في مجلس النواب القادم.
لكن المفاجأة ان يهزم الحزب الشيوعي العراقي في عقر داره، محافظة بابل، فلا يستطيع رغم تحالفه مع القائمة الوطنية العراقية، الحصول على مقعد واحد لممثله مفيد الجزائري، ابن الحلة والمسؤول الثاني في هذا الحزب.
والمفاجأة ان لا يتمكن اهل السنة من الحصول ولو على مقعد يتيم من بين المقاعد الاحد عشر المخصصة للمحافظة، رغم انهم يشكلون نسبة تتراوح بين 15 الى 20% من سكان المحافظة. خصوصا وانهم هذه المرة شاركوا بكثافة في مناطق شمال المحافظة بعد ان وفرت قوات الشرطة والجيش العراقي الظروف الامنية الملائمة.
واذا كان من غير المعقول ان تتم اية انتخابات في العالم بدون حصول خروقات، فانه من غير المعقول ايضا ان تكون الخروقات التي حصلت في انتخاباتنا قد ادت الى فوز قائمة واحدة وخسارة الباقين جميعا. فالتزوير –اذا كان قد حصل فعلا- يجب ان يمتد ليشمل قطاعا واسعا من موظفي الانتخابات، وبمشاركة كبيرة من المؤيدين والمناصرين بين المراقبين، وبطرق فنية وخدع واساليب تضليل من المستبعد ان نكون قد حصلنا عليها، ونحن لا نبلغ سوى عامين من الديمقراطية واللعبة الانتخابية.
لذلك فبدلا من الطعن في نتائج الانتخابات يجب على جميع الكيانات السياسية ان تعيد النظر في استراتيجياتها، وبرامجها وخطابها الجماهيري. ويجب على هذه الكيانات ان تراعي الظروف والاوضاع الراهنة عندما تتوجه للمواطن، لا ان تنعزل في صومعة اغلب الوقت، ثم تنزل من عليائها فقط في فترة الحملة الانتخابية. فبدلا من ان تلعن الظلام اشعل شمعة. ولكن في المقابل، فقد اعترفت المفوضية العليا للانتخابات ان من بين المئات من الشكاوى التي استلمتها بعد الانتخابات، فان هناك شكاوى حول مخالفات جدية يبلغ عددها بضعة عشرات، وانها بصدد التحقيق في كل واحدة والنظر في الاجراءات المترتبة عليها في حالة ثبوتها. وتلك الاجراءات قد تكون بالغاء نتائج الانتخابات في احد المراكز او المحطات الانتخابية، كما حصل في تركيا مثلا. وقد تكون باعادة الفرز والعد، او بالغرامة والفصل للموظفين المقصرين وغير ذلك. لكنني لا اعتقد ان نتائج الانتخابات سوف تتغير جوهريا باي من هذه الاجراءات. كما ان طلب اعادة الانتخابات بناءا على تلك الشكاوى قد لا يكون امرا عمليا، نظرا لعدم وجود آلية لمثل هذا الاجراء. فقانون ادارة الدولة والدستور الدائم كلاهما لا يعالج الحالة التي تنجم عن عدم قبول لنتائج الانتخابات، ولا يحددان مرجعا قضائيا للفصل في المنازعات الناشئة عن هذا الرفض. ويبدو ان واضعي كلا منهما كانت تحدوه حسن النية ويفترض ان الامور ستسير على ما يرام على الدوام.
ومع ذلك يبقى هناك دائما مجال لتدخل راعية العملية السياسية وضمانتها في العراق، واعني بذلك الامم المتحدة. فهذه الهيئة الدولية هي التي شكلت مفوضية الانتخابات، وهي التي تساعدها في عملها بتوفير الخبرات والكفاءات والتدريب اللازم لانجاح العملية الانتخابية المعقدة، اضافة الى الدعم اللوجستي. وهذه المنظمة الدولية تمتلك من الشرعية الدولية والمحلية ما يكفي لمليء اي فراغ قانوني نتج عن الاعداد المتعجل لقانون الدولة الاساس.
واخيرا فان الامم المتحدة بامكانها ان تكون الحكم في اي نزاع قانوني، نظرا لكونها اصلا من امضى قانون ادارة الدولة، ومن قبله الجدول الزمني للعملية السياسية في العراق. وهي التي اشرفت على تشكيل اول حكومة ذات سيادة. كما انها ساعدت في انجاح العمليات الانتخابية الماضية. واذا استمرت الازمة السياسية الناجمة عن عدم القبول بالنتائج المعلنة من قبل المفوضية، فستكون هيئة الامم المتحدة الجهة الوحيدة القادرة على فض الخلاف، والقادرة على فرض النتائج او اعادة الانتخابات اذا وجدت ذلك مناسبا.

Wednesday, December 21, 2005

المعركة القادمة اشد من معركة الانتخابات

بعد ان وضعت معركة الانتخابات اوزارها، وهدأ هدير الدعاية الانتخابية، وسكتت طبول الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين.. وبانتظار اعلان النتائج النهائية وحصة كل من الاحزاب والتنظيمات من مقاعد مجلس النواب ذي الاربع سنوات، لابأس في وقفة للنظر في ما يمكن ان يحدث من تحالفات في طريق تشكيل الحكومة التالية، وما يمكن ان تتمخض عنه هذه التحالفات.
وليس بخاف ان قائمة الائتلاف العراقي الموحد قد استطاعت ان تحقق فوزا منقطع النظير في مناطق الجنوب والوسط، بمنافسة ضعيفة من القائمة الوطنية العراقية، وبانعدام الوجود الجدي لاية قائمة اخرى، من بينها قوائم لشخصيات ذات بعد سياسي يمتد لفترة طويلة، ويفترض ان تكون قادرة ولو على اثبات وجودها في هذا المعترك. وتشير النتائج الاولية ان قائمة الائتلاف يمكن ان تحصل على نسب تزيد على 80% من المقاعد المخصصة للمحافظات الجنوبية والفرات الاوسط. بينما نافست القائمة الوطنية قائمة جبهة التوافق العراقية في محافظات غرب العراق، وانفردت قائمة التحالف الكردستاني في حصد مقاعد محافظات شمال العراق. ويبقى امل بسيط لجميع الكيانات السياسية في احتلال مقعد او اثنين من جملة المقاعد التعويضية البالغ عددها 45 مقعدا.
ان الحسابات المعتمدة على النتائج غير الرسمية والتي تعلنها الاحزاب من جانبها دون ان تؤكدها او تنفيها المفوضية العليا للانتخابات، تشير الى ان ما يزيد على نصف المقاعد البرلمانية سوف يذهب الى قائمة الائتلاف، يليها التحالف بما يقارب الخمس، والقائمة الوطنية والجبهة باقل من ذلك، وما تبقى سيتوزع فرادى او مجاميع صغيرة لكيانات تمثل الاقليات المختلفة.
وعلى هذا الاساس فان القائمة (الشيعية) ستأخذ الحصة المناظرة لنسبة عدد السكان (الشيعة)، ونفس الامر ينطبق على القائمة (الكردية)، بينما بقي تمثيل (السنة) موزعا بين القائمة الوطنية (العلمانية) وجبهة التوافق (السنية). ونظريا يمكن للائتلاف باحتلاله اغلبية المقاعد ان يشكل الحكومة القادمة بدون منازع. ولكن يجب على الائتلاف ان يجد حليفا لمساندة انتخاب مجلس الرئاسة الذي يقتضي حصوله على ثلثي الاصوات البرلمانية. وعلى الارجح سوف يعيد الائتلاف تحالفه السابق مع التحالف الكردستاني لهذه الغاية. وفي هذه الحالة فسوف يعمل التحالف على ضمان حصوله على منصب الرئاسة الاول واحدى الوزارات (السيادية) وتحديدا وزارة الخارجية.
واذا حاول الائتلاف ان يشكل حكومة وحدة وطنية، فربما ستكون مشابهة للتي شكلها الدكتور ابراهيم الجعفري. فجبهة التوافق سوف تطالب بمنصب نائب رئيس الجمهورية ووزارتين سياديتين وربما وزارتين اخرتين. اما القائمة العراقية فانها لن تقبل باقل من منصب رئيس الوزراء، او منصب نائب رئيس الجمهورية مع وزارتين سيادتين. غير ان القائمة العراقية التي طرحت رئيسها الدكتور اياد علاوي منذ البداية كرئيس للحكومة المقبلة، فانها قد لا تستطيع الحصول على أي مقعد وزاري، وستقنع بدور المعارضة.
ويبقى مجال للمناورة عبر منصب نائب رئيس مجلس الوزراء مع جميع القوائم التي تروم المشاركة في الحكومة. من جهة ثانية، فان الائتلاف قد لا يعيد ترشيح الجعفري، نظرا لتعدد الاحزاب والكيانات ضمن هذه القائمة. فالمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق والذي يشكل العمود الفقري لتلك القائمة لن يتخلى هذه المرة عن رئاسة الحكومة، كما ان التيار الصدري سوف يضغط بقوة ليكون في طليعة الحكومة، من خلال مناصب وزارية مهمة.
اما اذا انفردت قائمة الائتلاف بتشكيل الحكومة وارسلت بقية القوائم الى جناح المعارضة، فانها سوف لن تكون قادرة على تقديم أي شيء مهم. وهي بذلك ستكون وضعت حدا للتقدم الديمقراطي، وترسخ مبدأ سيادة الاغلبية بدون مراعاة الاقليات، وبالتالي سوف ينفرط العقد السياسي، وتطغى الحكومات المحلية على سلطة الحكومة الوطنية. لكن هذا الاحتمال بعيد لان قائمة الائتلاف تدرك جيدا ان نجاحها يعتمد بشكل اساس على التوافق الوطني.
ان المعركة القادمة، المتمثلة بتشكيل الحكومة ربما ستكون من اشد المعارك الديمقراطية التي شهدها العراق، نظرا للتنافس القوي على المناصب المتقدمة. وقد يستغرق تشكيل الحكومة فترة تزيد على فترة الثلاثة اشهر التي استغرقتها حكومة الجعفري. واذا اخذ بنظر الاعتبار ان المجلس النيابي سوف يعيد النظر في الدستور، بدون استثناء مواد معينة، حسب الاتفاق الذي ابرم مع الحزب الاسلامي قبيل الاستفتاء على الدستور، فان التأخير في تشكيل الحكومة سوف يؤثر بشكل جدي على هذا الاستحقاق المهم. وسيكون النجاح في الايفاء بهذا الاستحقاق اول مؤشر على الخروج من عنق الزجاجة الذي دخل في الوضع العراقي بعد طغيان التوجه الطائفي الذي اكدته نتائج الانتخابات. واذا مرر الدستور شعبيا فاننا نعتقد ان المستقبل سيكون اكثر اشراقا مما يبدو عليه اليوم، وهذا امتحان آخر امام جميع المكونات السياسية للعمل سوية من اجل هذه الغاية.

Tuesday, December 06, 2005

بين الجعفري وعلاوي وامنية حكومة الوحدة الوطنية

لم يشهد التاريخ الحديث لاي دولة -على ما نعلم- مثل هذا التزاحم السياسي للاشخاص والاحزاب والاحداث، كالذي حدث ويحدث في العراق خلال هذه المرحلة. هذا التزاحم الذي يعود سببه اساسا الى ضعف الاستراتيجية الامريكية في العراق، وارتكابها لسلسة طويلة من الاخطاء منذ اسقاط نظام الطغيان فيه وصولا الى تسليم السيادة. كما أثر غياب التنسيق الوطني، وتناحر الاحزاب والشخصيات المعارضة للنظام السابق، بشكل سلبي على مسيرة العملية السياسية بشكل عام.
وفي ظروف استثنائية مثل التي يمر بها العراق، ربما يعد التنافس السياسي امرا مساعدا على غربلة العناصر المختلفة في الساحة، واتاحة الفرصة لتمييز الغث من السمين. ولكن المشكلة ان التوقيتات الزمنية للاستحقاقات السياسية هي متقاربة بشكل كبير. وهذا التقارب الزمني ادى الى تشويش في ذهنية المواطن، وارتباك في تحديد دوره. ذلك ان الارادة الحرة للانتخاب والاستفتاء تعتمد بشكل كبير على مقدار الاستعداد النفسي للفرد، كما تعتمد على التوعية والثقيف الفردي والجماعي. فحتى في اكثر النظم ديمقراطية واقدمها، نجد ان الدولة تعمل على توفير المعلومات وتهيأة المستلزمات للعمليات الانتخابية قبل فترة غير قصيرة من موعدها المحدد، كما تقوم مؤسسات متخصصة، تتلقى دعما من الدولة او من المجتمع، على تثقيف الناخبين، وتهيئة الاجواء المناسبة للانتخاب، وارساء دور الرقابة العامة على مجمل العملية الانتخابية.
من ناحية اخرى، فانه لم تتح الفرصة الكافية للتيارات المختلفة، الدينية منها والعلمانية، لاثبات قدرتها على تحقيق طموحات وآمال الشعب، وعرض برامجها السياسية بشكل عملي من خلال تواجدها في السلطة. وكانت الحكومتان اللتان خلفتا سلطة الحاكم المدني الامريكي مقيدتين بهذه التوقيتات الزمنية، ومنشغلتين بشكل أساسي في توفير الظروف المناسبة لتطبيق الجدول الزمني الذي أعده مجلس الحكم السابق. وواجهت كل منهما نفس التحديات المتمثلة بالخلل الامني، والفساد الاداري، وتردي الخدمات، وتلكؤ عملية اعادة الاعمار، علاوة على مشاكل البطالة والضمان الاجتماعي. كما ان كلا منهما، بحكم كونه تيارا سياسيا، كان يرتسم ملامح وجوده ضمن اللعبة السياسية في المستقبل، مما جعلهما على نفس القدر من الانشغال الذاتي، بما يفوق الانشغال بالشؤون العامة.
وفي مثل هذا المشهد السياسي ليس من السهل على الناخب اليوم الحكم على اداء الحكومتين السابقتين، او اختيار تيار مغاير لتمثيله في الحكومة القادمة، والتي سيستمر وجودها لاربعة سنوات على الاقل. فحكومة اياد علاوي التي تم تشكيلها بالتوافق مع مجلس الحكم السابق والامم المتحدة اضافة الى الحاكم المدني، لم يكن لعلاوي نفسه يد في اختيار شخوصها. وكانت المحاصصة، التي طغت على مجلس الحكم، هي الصيغة التي تشكلت بموجبها تلك الحكومة. ولذلك فان اي خلل في اداء تلك الحكومة يمكن ان يعزى الى وزرائها منفردين، اكثر مما يُعد علاوي مسؤولا عنها بشكل مباشر.
وبعد اجراء الانتخابات، وتشكيل حكومة الجعفري، فرضت المحاصصة نفسها من جديد، بعد ان غاب او غيّب عن التمثيل البرلماني ممثلو المحافظات الغربية. ولكن الجعفري شكل الحكومة باختياره، وهو مسؤول عنها بشكل مباشر. غير ان تلك الحكومة واجهت اصعب التحديات على الاطلاق، الا وهو كتابة مسودة الدستور وتمريره بالاستفتاء العام. وقد نجحت هذه الحكومة في ذلك، رغم الاعتراضات والتحفظات التي أثيرت حول الدستور.
ان ترجيح كفة الميزان لصالح اي من هاتين الحكومتين بناءا على ادائهما في فترة توليهما السلطة لن يكون منصفا بحال. والواقع انهما قدمتا افضل ما يمكن تقديمه ضمن الظروف والامكانيات المتاحة. ولكن هناك فرق بين اداء الحكومة، وسيرة الاحزاب المؤلفة لتلك الحكومة. ففي فترة حكومة علاوي، سعت بعض الاحزاب، استمرارا للنهج الذي ساد في فترة مجلس الحكم، الى فرض هيمنتها على الوزارات والدوائر الحكومية. بيد ان حزب علاوي، الوفاق الوطني، لم يكن له مثل هذا الدور. اما في فترة حكومة الجعفري، والتي استمر فيها هذا التوجه، فقد كان حزبه، الدعوة الاسلامية، مشاركا فيه بشكل واضح.
وفيما يخص الملف الامني، فاننا لا نعتقد ان ايا من الحكومتين كانتا قادرتين فعلا على تحقيق تقدم ملموس، ولكن حكومة علاوي واجهت التمرد بشجاعة اكبر، بينما حاولت حكومة الجعفري احتواءه. ومؤتمر القاهرة قد يحسب انجازا للجعفري، ولكنه تحقق بفضل مواجهات علاوي السابقة. اما الفساد الاداري، فهو علة مستعصية، وهو أشد مخلفات نظام صدام تأثيرا، ولكن للاسف لم تتخذ ايا من هاتين الحكومتين اجراءات حازمة بشأنه، ربما بسبب صعوبة اثباته بالنسبة للافراد، وان سهل تشخيصه بالنسبة للمؤسسات. ان الخلل الامني وتفشي الفساد الاداري حالا دون تحقيق قفزة في اعادة الاعمار او في حل مشكلة البطالة المزمنة، في كلا فترتي الحكومتين.
والمجال لا يتسع لعقد مقارنة منصفة، ولكننا نعتقد ان اخطاء اياد علاوي حصلت لان حكومته لم تكترث به كثيرا، وان اخطاء ابراهيم الجعفري كانت لانه كان يكترث بحكومته كثيرا. ولو تسنى في المستقبل جمع الرجلين في حكومة واحدة لكانت -بحق- الحكومة التي تخدم الشعب والوطن.

Tuesday, November 29, 2005

ضياع الهوية ام ضياع المقاعد النيابية؟

بدأت الحملات الانتخابية للقوائم المرشحة لمجلس النواب بالتصاعد يوما بعد يوم. وغزت الشوارع والساحات والبنايات الحكومية والاهلية وغيرها لافتات تدعو المواطنين الى التصويت لهذه القائمة او تلك. وحاولت الكيانات السياسية من خلال ملصقاتها ولافتاتها واعلاناتها المتلفزة ان تشرح برامجها الانتخابية، لحث الناخبين على الادلاء باصواتهم بموجب هذه البرامج. وركزت بعض هذه الاعلانات على شخصية معينة من بين المرشحين على اساس انها تمتلك المواصفات الكفيلة بتحقيق امال الشعب العراقي وارساء الأمن وتحسين الخدمات واعادة الاعمار وغير ذلك من الاهداف التي تلامس قلوب العراقيين الطامحين لتحقيق ابسط قدر منها على الاقل.
والحق ان هذه الدعاية الانتخابية هي بحد ذاتها مكسب للشعب. فبخلاف ما جرى في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني، لم ترتكز هذه الدعاية على استلاب حرية المواطن وتحديد خياراته من خلال استعمال الرموز الدينية وتوظيفها لصالح قائمة بعينها. وهذا يؤشر تطورا مهما في العملية الديمقراطية قد يكون سببه زيادة الوعي الانتخابي لدى الشعب. كما ان مثل هذا التطور خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة يؤكد حضور الذهنية العراقية ويقضتها. ولو حاولت قائمة ما ان تسعى لاقحام الدين كعامل حاسم في التصويت لاصيبت بنكسة كبيرة قد لا تستفيق منها ابدا.
ولكن اسس الدعاية في الانتخابات الحرة لم تستقر بعد، ولم تصبح متينة بما فيه الكفاية لتجاوز الدعاية السلبية القائمة على الطعن في الاخرين لمجرد اسقاطهم، وتحديد خيارات الناخب لصالح القائمين عليها فقط. من ذلك ادعاء البعض ان الانتخابات القادمة هي انتخابات (تحديد الهوية)، بمعنى ان نتائجها يجب ان تعكس اطياف الشعب العراقي بنسبة مماثلة لاعدادها السكانية. ورغم ان هذا المبدأ يبدو منصفا، الا ان اعتماده اساسا في التصويت قد يؤدي الى عواقب وخيمة. فلو كان التمثيل البرلماني قائما على الطائفة او العرق لكانت الفئة الاكبر هي التي ستتولى اتخاذ معظم القرارات طالما انها تمتلك الاغلبية في مجلس النواب. غير ان مجلس النواب لا يختص بطائفة وان كانت اغلبية الشعب. واوضح مثال على ذلك انتخاب رئيس للعراق من الطائفة الكردية، ومع ذلك فقد مثل العراق في شتى المحافل ومنها جامعة الدول العربية، رغم انه ليس عربيا.
واذا كان القانون الانتخابي الحالي يتيح المجال امام المحافظات لارسال ممثليها الى البرلمان، فليس معنى ذلك ان هؤلاء سيكونون ممثلين لمحافظاتهم فقط، بل انهم ممثلين لجميع العراق. وحقيقة انهم اصبحوا في مجلس النواب بفضل اصوات محافظاتهم يحملهم مسؤولية تلك المحافظات، ولا يعفيهم من اثبات اهليتهم على المستوى الوطني كجزء من رد الفضل الى تلك المحافظات التي صوتت لهم. ولهذا فان العامل الاساس في التصويت يجب ان يكون اهلية المرشحين وكفاءتهم علاوة على البرنامج الانتخابي، بغض النظر عن الطائفة او العرق.
ان مبدأ (تحديد الهوية) انما هو مناورة انتخابية لاستجلاب الاصوات لهذه القائمة او تلك، وصرف النظر عن مرشحيها. ولو كانت هذه القائمة او الكيان تعتقد باهلية مرشحيها او اخلاص برنامجها الانتخابي لما سعت الى استخدام هذه المناورة. فالانتخابات وسيلة ديمقراطية للتعبير عن طموحات وامال الشعب. وفكرة الانتخابات الحرة قائمة على ان المواطن حر، بدنيا ونفسيا وفكريا، في الادلاء بصوته لصالح الجهة التي يعتقد انها الافضل تمثيلا له.
بالطبع يمكن الاحتجاج ان الحالة المثالية للانتخابات الحرة غير ممكنة، وهذا صحيح ككل الاشياء المثالية في حياة البشر. لكن الحكم في ذلك يعود الى مقدار اقتراب الحالة قيد النظر من الحالة المثالية. فالقول للناخبين ان برنامج قائمة ما يتضمن كذا وكيت، يختلف عن القول لهم ان التصويت لقائمة اخرى هو امتثال لامر ديني. ففي الحالة الاولى يمكن تصور خلاف الموضوع المطروح، بينما لا يمتلك الناخب في الحالة الثانية خيارا في تصور الخلاف. ولهذا فان الحالة الاولى اقرب الى قواعد الديمقراطية من الحالة الثانية. وقد يكون برنامج القائمة في الحالة الاولى محض تصورات غير واقعية ويكون مرشحو هذه القائمة غير اكفاء او وصوليون طامعون في المنصب والجاه. ولكن ذلك لا يعني انهم اسوأ من مرشحي القائمة التي تتحزب للطائفة على اساس الخوف من ضياع الهوية، او القائمة التي تستند الى المقدس بدعوى حسابات فلكية عجيبة. من ناحية اخرى، فان كثرة القوائم والكيانات المتنافسة في هذه الانتخابات ادت الى تشوش ذهنية الناخب وتشتته بين البرامج الانتخابية والاحزاب والشخوص، علاوة على العوامل القومية والدينية والثقافية التي تحدد خياراته. وتجد الكثير من المواطنين يعبر عن اعجابه بشخصية ما في احدى القوائم، وبشخصية اخرى في قائمة اخرى.. ومع ذلك فهو يعتقد ان عليه ان يصوت لقائمة مغايرة لكل منهما. وسبب هذا التنازع، ان هناك كما هائلا من الخيارات، يقابله تشابه في البرامج، مما يجعل الناخب في حيرة كبيرة ويحثه الى اتباع الطريق الاسهل عادة، مثل التصويت على اساس ديني او عرقي او طائفي.
لذلك فاننا ندعو الى النظر بروية في البرامج الانتخابية اولا، والى سيرة المرشحين ثانيا، وخصوصا ما افرزته المرحلة السابقة من شخصيات وطروحات فكرية وسياسية. ومسؤولية التصويت هي في النهاية ذاتية غير مرتبطة بالحزب او الطائفة او المذهب او العرق.

Tuesday, November 22, 2005

من الحلة الى عمّان.. ارهاب واحزاب

في الثامن والعشرين من شباط الماضي قام انتحاري يقود سيارة مفخخة باستغفال الشرطة المحلية التي كانت تقف على مقربة من العيادة الشعبية في مدينة الحلة، وإلتف من شارع جانبي ليفجّر سيارته في طابور من طالبي التوظيف الذين كانوا ينتظرون خارج العيادة لفحصهم طبيا، مما تسبب في مقتل وجرح العشرات منهم. وافادت التقارير حينها ان هذا الانتحاري هو اردني الجنسية ويدعى رائد البنا، وان اسرته قد تلقت التهاني بـ(استشهاده)، مما ادى الى قيام آلاف العراقيين بالتظاهر في بغداد والمدن العراقية الاخرى. وقد هاجم المتظاهرون السفارة الاردنية في العاصمة العراقية واقتحموا المبنى واحرقوا العلم الاردني، كما طالبوا بترحيل كافة العرب من العراق وشتموا الملك الاردني عبدالله الثاني. وجاء في بيان اصدرته الحكومة العراقية انها "تدين مظاهر الفرح التي ابدتها عائلة الانتحاري الاردني، وان رئيس الوزراء العراقي قد قام شخصياً باستجلاء الموقف من الحكومة الأردنية، معبراً لهم عن غضبه واشمئزازه من هذه الفعلة"، ومضى البيان الى القول: "إن هذا الفعل من شأنه أن يلهب مشاعر أبناء شعبنا تجاه أشقائهم في المملكة الأردنية ويسيء إلى علاقات الاخوة وحسن الجوار." من ناحيتها، اعلنت السلطات الاردنية انها القت القبض على الصحفي الذي كان قد اورد الخبر، لنشره اخبارا كاذبة تسئ للبلاد. كما نشرت الصحيفة التي يعمل الصحفي لحسابها تصحيحا من اسرة البنا تنفي فيه ضلوعه في هجوم الحلة.
وفي التاسع من تشرين الثاني تعرضت ثلاثة فنادق سياحية في عمّان الى هجمات انتحارية، ثبت فيما بعد انها من فعل ثلاثة انتحاريين عراقيين، بالاشتراك مع زوجة احدهم ولكنها فشلت في تفجير نفسها في تلك العملية. وادت هذه الهجمات ايضا الى اصابة ومقتل العشرات من الضحايا الابرياء الذين كان معظمهم يشارك في حفل زواج. وعلى خلفية هذا الاعتداء استقبل رئيس الوزراء الاردني وزير الدفاع العراقي الذي نقل رسالة الى العاهل الاردني من رئيس الوزراء العراقي تتضمن تنديده واستنكاره للاعمال الارهابية التي تعرضت لها العاصمة عمّان. وقال المسؤول العراقي انه يحمل كذلك رسالة تعزية ومواساة من الحكومة والشعب العراقي الى "اخواننا واهلنا في الاردن لان مصاب الاردن هو مصاب للعراقيين". واضاف نحن نشكل ساحة واحدة نتشارك في السراء والضراء وشركاء في مواجهة الارهاب الذي لا يفرق بين مدينة واخرى وبلد واخر. كما اكد وزير الدفاع العراقي ان العراقيين في الاردن هم بين اهلهم وان "اخواننا في الاردن لم يقصروا معهم اما من يسيء الى نفسه واهله فهذا له حساب اخر ولكن ما لمسته انه لا يوجد أي شيء ضد العراقيين الموجودين هنا".
فما الذي تغير بين شباط وتشرين؟ وكيف رُققت لهجة الحكومة العراقية واصبحت اكثر تعاطفا وشعورا بالمسؤولية؟ لاشك انها الحقيقة التي طالما هربت منها، وانكرتها ورفضتها، وهي ان العراقيين هم ايضا يمكن ان يكونوا انتحاريين، وانهم هم ايضا يمكن ان يصدروا ارهابا. فقد كانت العقيدة السائدة قبل تفجيرات عمّان ان ما يحدث من هجمات انتحارية في العراق انما هو من فعل (المجاهدين) العرب المغرر بهم، والذين دخلوا العراق بصورة غير شرعية. والحكومة العراقية كانت تلمح حينا وتصرح احيانا اخرى الى تلقي هذه المجموعات الدعم الخارجي وتدعو بلدان الجوار الى حفظ حدودها.
لا شك ان الكثير من العمليات الانتحارية وغيرها قد تم تنفيذها عن طريق هؤلاء المتسللين. ولا ريب في ان بعض دول الجوار لا تولي مسألة حماية الحدود المشتركة الاهتمام الكافي لاسباب سياسية ولوجستية، وانها ربما تكون ضالعة في تلك العمليات. ولكن ما حدث في عمّان قد كشف الوجه الاخر للقصة، واصاب العراقيين بصدمة جديدة تضاف الى صدماتهم السابقة. والعراقيون لم يستفيقوا بعد من صدمتهم بحكومتهم المنتخبة، وصراعها وتهافتها على السلطة واهمالها لشؤون المواطنين، ولم يفرغوا بعد من قراءة الدستور الذي لم يروه قبل ان يصوتوا عليه، ليجدوا انهم ضحايا حملات التضليل المنظم، وانهم أستخدِموا كأداة في السياسة الداخلية للاحزاب المتنافسة، حتى على حساب العلاقات الدولية وما يمكن ان ينتج عنها من تداعيات قد لا تحمد عقباها. فالذين اججوا المظاهرات ودفعوا الجموع الى اقتحام السفارة واحراق العلم الاردني، مستندين الى اخبار لم تثبت صحتها، لم يخرجوا لاظهار التعاطف مع ضحايا تفجيرات عمّان والتي ثبت انها من فعل عراقيين. كيف وهم إنما دفعتهم الى اتخاذ ذلك الموقف اجندة سياسية معينة لم تعد خافية على الشعب العراقي. وقد كان الاولى، قبل القاء التهم جزافا وتأليب الرأي العام، ان يتم التحقيق في جريمة الحلة وغيرها، باستخدام الوسائل التقنية المتاحة، لتحديد هوية المعتدي ومن يقف وراءه. ولكن يبدو ان بعض السياسيين في عراق اليوم لم تعد تهزهم التفجيرات اليومية، ولا سقوط العشرات من القتلى والجرحى، ولا ثكل الارامل ويتم الاطفال. فهؤلاء غرّهم الكرسي والمنصب والجاه كما غرّ صداما من قبل، ولا عجب!!

Tuesday, November 15, 2005

سوريا بين المطرقة والسندان

منذ بداية التغيير الديمقراطي في العراق، والذي تزامن مع ظهور الحركات التكفيرية و(الجهادية) وما يسمى بـ(المقاومة)، اشارت اصابع الاتهام المرة بعد الاخرى الى الدولة العربية (الشقيقة) والمجاورة للعراق بدعمها لتلك الحركات، علاوة على ايوائها لعناصر النظام السابق الذين لعبوا دورا مهما في التمويل والتخطيط للهجمات المسلحة في انحاء العراق كافة. ولكن سوريا انكرت باستمرار تلك الاتهامات، و(فبركت) مسرحيات للتدليل على انها هي ايضا هدف للارهاب، وبالتالي فان من مصلحتها ان تحاربه فضلا عن عدم ايوائه. ولكن المصاديق على ارض الواقع كانت تثبت العكس دائما. فالحكومتان العراقيتان السابقة والحالية، امتلك كلاهما ادلة دامغة على هذا التورط، وسعت الوفود المتتالية الى ايجاد ارضية للتعاون من قبل الجانب السوري استنادا الى التصريحات المعلنة من قبله. وقد وصل الامر الى حد ان يشك المسؤولون العراقيون ان الرئيس السوري لا يعلم ما يدور من وراء ظهره، اذ ليس من المعقول ان تكون سياسية اية دولة بهذا المقدار من الازدواجية بين ما تعلنه من مواقف رسمية، وما تخطط له في دوائر مخابراتها.
ومن ناحية اخرى، فان سوريا لم تخفِ تورطها في لبنان، على المستوى العسكري او المخابراتي، وتحكمها في شؤون ذلك البلد (الشقيق) والمجاور لها. وقامت برفد المليشيات اللبنانية بالمال والسلاح والتدريب بحجة (دعم المقاومة الوطنية).. ولكنها لم تنشأ اية (مقاومة) في الجولان وهي اراضيها المحتلة منذ عام 1967. وعلى مدى عقدين من الزمن آوت وساعدت حركة التمرد التركية بزعامة عبد الله اوجلان، ثم اضطرت الى ترحيله بعد ان حشدت تركيا الجيوش على حدودها مع سوريا في محاولة لانهاء ذلك التمرد والقبض على زعيمه. وكانت لسوريا ايضا مشاكل مع الاردن، الجار العربي الاخر، والتي ادت الى غلق الحدود بينهما لفترة طويلة. ولا ننسى ان حدودها مع العراق بقيت مغلقة فترة تقارب العقدين بسبب الخلاف الايديولوجي بين جناحي حزب البعث الحاكمين في كل من البلدين.
وهكذا يتضح ان لسوريا علاقات متوترة وتدخل في شؤون جميع البلدان المجاورة، ولكنه كان سافرا الى حد كبير في الحالة اللبنانية. وهذا التدخل سبب تذمرا في اوساط القوى الوطنية اللبنانية، والتي سعت الى طرد القوات السورية من الاراضي اللبنانية من خلال الدبلوماسية الدولية، ومجلس الامن. واثمرت تلك المحاولات باصدار القرار الاممي 1559 الذي طالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح المليشيات اللبنانية، خصوصا المدعومة من قبل سوريا.
ولكن سوريا التي انتهجت على الدوام سياسة (حافة الهاوية)، كانت تتجاهل تلك القرارات والرغبة الوطنية اللبنانية، دون ان تتعض من التجربة التي مرّ بها النظام السابق في العراق حين واجه المجتمع الدولي، وقاد ذلك الى سقوطه. والواقع ان السياسة السورية انتهجت نهجا مغايرا، وان كان السيناريو متشابها. فحين احتل النظام العراقي دولة الكويت، وافقت سوريا على ان تكون ضمن القوات المتحالفة لتحرير الكويت، ولكنها لم تطلق طلقة واحدة في تلك الحرب. وهي وافقت كذلك على التفاوض مع (اسرائيل)، وان ماطلت وضيعت الفرص المتتالية لاسترجاع الجولان سلميا. وهي انسحبت من لبنان عسكريا بعد (انتفاضة الاستقلال) التي شهدتها لبنان عقب مقتل الرئيس الحريري، وان ظل شك في بقاء عناصر مخابراتها هناك. فهي تتظاهر انها تفعل ما يراد منها عندما يشتد الضغط عليها، ولكنها تفعل فقط الجزء الاقل اهمية، لتبقى مممسكة بخيوط اللعبة.
والمجتمع الدولي ليس غافلا عن هذه الحقائق. ولكن من طبيعة السياسة الدولية ان تنتظر الفرصة الملائمة. وقد لاحت تلك الفرصة بعد ثبوت تورط العناصر المخابراتية السورية، وبتواطؤ مع عملائها في لبنان، في مقتل رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري. وبدأت القوى الدولية في الضغط على سوريا في نفس الوقت الذي تعرض تلك القضية على مجلس الامن الدولي. وشكل مجلس الامن لجنة للتحقيق برئاسة ميليس. وجاء في تقرير تلك اللجنة انه (يصعب ان يتصور حصول الاغتيال بدون علم سوريا نظرا لتواجدها العسكري والامني في لبنان). وفي محاولة لتسفيه هذا الاستنتاج قال وزير الخارجية السوري لمجلس الامن ان ذلك يعني فيما يعنيه ان الولايات المتحدة متورطة في احداث 11 أيلول، وبريطانيا متورطة في احداث 7 تموز. فاجابه وزير الخارجية البريطاني انه اذا كان يلمح الى اشتراك هاتين الدولتين في اعمال الارهاب التي وقعت على اراضيها، فان عليه ان يقول ذلك صراحة. ولكن الوزير السوري لم يجب بشيء، فالقياس هنا مع الفارق. ان سوريا متهمة في نظر مجلس الامن بخلاف الدولتين الغربيتين، وليس من رد الاتهام القول لماذا لا تتهمون الاخرين؟ وفي خطابه الاخير حمل الرئيس السوري على العراق لعدم تعاونه في منع الارهاب، ولبنان كونها ممرا للمؤامرات على سوريا. وهي ذات السياسة السورية العتيقة، من التنصل واتهام الاخرين بما يتهموه بها.
قد لا يكون ا لسيناريو الذي اسقط صدام سوف هو ما سيعتمد في حالة النظام السوري. ولكن سوريا باتت بين مطرقة مجلس الامن الدولي وسندان الرفض الاقليمي لسياساتها. وبذلك فلن تستطيع ان تستمر في دعم (الارهاب)، ولا التحرش بدول الجوار اكثر مما فعلت. وستضطر، كما اضطرت في الماضي، الى تغيير سياساتها في المنطقة لتجنب الحرب التي ستسفر عن تغيير هذا النظام في سلسلة التغييرات الحتمية. وربما ستؤتى من الحكمة القدر الكافي للاعتراف بالذنب، والسعي الى اصلاح نظامها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.

Tuesday, November 01, 2005

حق الحياة المقدس

خلال مسيرة الانسانية تطورت الكثير من المباديء وتهذبت وتشذبت بحيث اصبحت تميزه، وتسجل تحضره وانتقاله من حياة الصيد والغابة الى حياة المجتمع الزراعي والصناعي، واتاحت له التعايش بسلام وامن مع ابناء جنسه. وهذه المباديء ليست بالضرورة ان تكون من صنع الانسان نفسه، بل ان جلّها قد يكون اوحي اليه من خلال الديانات السماوية السامية والتي ارتقت بهذا الكائن الضعيف واكرمته، وعلمته ان يقدس الحياة البشرية ويجعلها اول المحرمات على افراد المجتمع.
ان حق الحياة المقدس ضمنته الديانات كافة، سماويها وارضيها، والقوانين الوضعية على مدى التاريخ المدون في كل الحضارات الانسانية التي نشأت بمختلف اصقاع الارض. والقاسم المشترك لهذا التقديس ان الحياة لا يمكن ان تنتهك الا قصاصا. والقصاص لا يكون الا ببينة وحكم من سلطة مختصة، مع منح المتهم حق الدفاع عن نفسه.
والحروب سمة اخرى من سمات التطور البشري. وهي كثيرا ما اخذت طابع الدفاع عن اهداف نبيلة ومباديء سامية، واكتسبت في بعض الاحيان تسمية الحرب (العادلة). لكنها كانت على الدوام وسيلة لفرض رأي احدى الجهتين المتقاتلتين على الجهة الاخرى. والحرب تعمل على توحيد المجتمع بشكل يفوق ما يمكن لنعم السلم ان تفعله، لانها تضع وحدة المجتمع ووجوده على كفتي ميزان. ولطالما وافق ابناء المجتمع على خوض حرب لم يوافقوا على دخولها اصلا. والزعماء ادركوا ذلك منذ البداية، فجعلوا اشعال الحروب ديدنهم وشغلهم الشاغل. واكتشف هؤلاء ان ربح الحرب يطيل عمرهم ويمدهم باموال تعينهم على البقاء في السلطة، بينما خسارة هذه الحرب يحولهم الى رموز وطنية يحتفل بهم ويمجد لهم.
ان المجتمعات المختلفة اوجدت طريقة للتعايش رغم الاختلاف تقوم على تبادل وجهات النظر واحترام حق كل طرف في ان يعتقد بما يشاء وان يفعل ما يشاء ضمن حيزه ومنطقته. وعمل التبادل التجاري على تقوية الاواصر بين المجتمعات واذابة الفروقات التقليدية. ونشأت روابط اجتماعية نتيجة لهذه الاواصر التجارية وطوعت، رويدا رويدا، بعض المعتقدات والتقاليد لتناسب كل من تلك المجتمعات مع احتفاظ كل منها بخصوصيته وتميزه.
وبالمقابل، بقي نفر في كل مجتمع ينادي بالتقاليد (الاصيلة) ويتباكى على الاعراف المنتهكة. وهؤلاء وان لم يحصلوا على اغلبية في مجتمعاتهم، وانعزلوا في صوامع بعيدة، ونعتوا بالتطرف والتشدد، الا انهم لم يُعدموا موافقة صامتة على مواقفهم. فهم من نسيج ذلك المجتمع ومن نتاجه. وابناء المجتمع الواحد مهما يكن اعتدالهم، لا يستطيعون تقبل التعديل والتحريف على معتقداتهم خلال جيل او جيلين. وهم قد لا يقاومون مثل هذه التعديلات مباشرة، الا انهم لا يمنعون من يقوم بتلك المقاومة، حتى وان سلك طرقا خاطئة في مقاومته تلك.
وهكذا، اذا شعر المجتمع ان قيمه تتعرض الى تغيير (قسري)، حتى ولو كان هذا الشعور ناجما عن جهل ذلك المجتمع بطبيعة ذلك التغيير، فانه لن يسعى الى ايقاف المعارضة المتطرفة. بل انه سيشعر ان السماح لتلك المعارضة بالعمل هو جزء من الواجب المتروك. ولان مبدأ الحرب يحتم انتهاك قدسية الحياة، فان الزعماء المتطرفين لن يجدوا غضاضة في الامر بالقتل والتقتيل لتحقيق مآربهم التي يريدون ان يقنعوا الشعب انها مآربه هو ايضا.
ان ما نشهده اليوم من تطرف في اماكن كثيرة من العالم الاسلامي هو مصداق لما تقدم. فالكثير من المسلمين يعتقد ان هناك مؤامرة غربية على دينهم، وانهم مستهدفون لانتمائهم. واستغل المتطرفون في تلك المجتمعات الاسلامية هذه المخاوف في تجنيد الاتباع، واستباحة الانفس تحت شعار (الحفاظ على الدين) وتصوروا انهم يخوضون حربا مقدسة لانقاذ الدين من هجمات (الكفار). ولكن الحقيقة ان التغيير الذي يحدث اليوم يشمل كل الحضارات والاديان، نتيجة الطفرات العلمية المتتالية، والثورة المعلوماتية، التي الغت الحواجز التقليدية واتاحت لافكار جديدة ان تغزو كل حضارة وكل مجتمع. واذا بدأنا باقناع المجتمعات الاسلامية بان التغيير ليس موجها ضدها، فقد يكون ذلك هو المفتاح لمكافحة التطرف والارهاب الناجم عنه، واعدنا لحق الحياة قدسيته من جديد.

Tuesday, October 25, 2005

الجمعية الوطنية تأخذ المكرمات.. والحكومة تمنحها!

اعتاد النظام المقبور ان يحتفل سنويا بما يسمى بـ(المنجزات) التي حققتها قيادة (الحزب والثورة). وكانت توضع لوحات كبيرة في اماكن مميزة من الابنية الحكومية والمدارس والمؤسسات الصناعية وغيرها تعدد تلك المنجزات. واصبح في وقت لاحق من الواجب على كل مواطن صالح ان يحفظ عن ظهر قلب تلك المنجزات العظيمة، والا واجه انتقادات واتهامات بالعمالة الى احدى الجهات الكثيرة التي تعادي ذلك النظام. وقد كنا نعتقد ان زوال ذلك النظام الفاسد سيؤدي الى زوال هذا التقليد الساذج، الذي يعني فيما يعنيه ان الدولة ليست مضطرة لفعل الاشياء التي تفعلها لخدمة الشعب او لحمايته، وانما هي تفعل ذلك لانها متفضلة عليه. وليس اوضح من استخدام كلمة (مكرمة) في العهد البائد لكل ما يقدم للمواطن حتى ولو كان من (لحم ثوره).
لكن الذي يحدث الان لا يختلف كثيرا من ناحية المبدأ. فـ(المكارم) توزع يمينا وشمالا بدون حسيب او رقيب، وهي تشمل كل شيء تقريبا. فمن التعويضات السخية لبعض (المتضررين) بدون قانون محدد، الى توزيع قطع اراض سكنية على فئات معينة بدون ضوابط اصولية. وكما كان نظام صدام المقبور يقرر في لحظة واحدة ان يمنح (مكرمة) لمحافظة ما، فترصد لها بضعة ملايين تصرف جلها في جداريات وتماثيل للقائد الضرورة، كذلك يقرر اليوم السيد رئيس الوزراء ان يمنح محافظة، او مدنية ما، تخصيصات مالية من اجل تطوير بنيتها التحتية. وهكذا، فليست هناك اهمية للخطط المستقبلية او المرحلية، وليست هناك اعتبارات للضرورات الفنية، وليس هناك من معنى للميزانيات العامة والتخصصيات السنوية. فكل ما يهم هو ان يقال ان (السيد الجعفري) قد منح (مكرمة) لتلك المحافظة، حتى ولو لم تحصل تلك المحافظة على دينار واحد من تلك الـ(المكرمة السخية).
لكن المشكلة قد تكون ابعد من دعاية حكومية لمجلس الوزراء او احزاب السلطة. فالجمعية الوطنية هي الاخرى لم تكن عابئة بشكل واضح بهموم الوطن والمواطن. ورغم ان بعض اعضائها طرح بشكل استعراضي لافت مشاكل وشكاوى فئات معينة من الشعب، الا ان الجمعية لم تصدر، الا ما ندر، قرارا او قانونا يعمل على حل تلك المشاكل، او يحسن حياة الناس بشكل عام. وعدم الاكتراث هذا انعكس بالتأكيد على مستوى الرقابة التي تقوم بها الجميعة الوطنية على مؤسسات الدولة التنفيذية. وزادت الطين بلة المطاحنات والمشاحنات السياسية للكتل السياسية وشخوصها داخل الجمعية ومجلس الوزراء والهيئات الحكومية الاخرى. حتى لكأن الدولة تحولت الى منبر للتناحر السياسي، واصبح الشعب وسيلة لتحقيق المجد الشخصي. ولعل اقرب وصف لهذا الوضع هو (الفساد) بكافة اشكاله: السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الفكري. فلم يعد هناك من يرغب في مناقشة تلك الظواهر السلبية سواء على مستوى القيادة او المستوى الحزبي او المستوى الشعبي. فالكل يريد الحل الجاهز والحكومة المثالية دون ان ينظر الى ما يتوجب عليه ان يفعله.
ومن ناحية اخرى فقد اخذت عملية كتابة مسودة الدستور حيزا كبيرا من اهتمام الدولة. وهذا حق، ولكنه يجب ان لا يكون مبررا لتردي الاوضاع الامنية والسياسية والاقتصادية نتيجة الفساد الذي يضرب ارقاما قياسية. فليس هناك من فائدة في دستور الدولة اذا لم يتم التقيد به والعمل بموجبه. ومع انتشار مظاهر الفساد الاداري، لا يبدو ان هناك ارضية جيدة لتطبيق مباديء اي دستور مهما يكن متسامحا مع تلك الظاهرة.
في اواخر عهد مجلس الحكم السابق قرر اعضاؤه مكافئة انفسهم براتب تقاعدي مجز رغم انهم لم يستمروا في الخدمة العامة سوى بضعة اشهر. ولما جاء المجلس الوطني المؤقت لم يعمل على تغيير هذا القانون بل استفاد منه لمكافئة اعضائه الذين خدموا مدة اقل من مجلس الحكم. والاغرب من ذلك ان تقوم الجمعية الوطنية بنفس التصرف لمنح اعضائها تقاعدا مدى الحياة، رغم انها، بخلاف المجلسين السابقين، جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، وليس بالتسويات والتوافقات السياسية. ومن المعروف ان من يتصدى للخدمة العامة بالطرق الديمقراطية يجب ان يثبت انه لا يعمل لمصلحته الشخصية. ولكن تلك الجمعية سولت لنفسها ان تقوم بهذا التصرف المشين، غير مبالية بمعاناة الشعب نتيجة تردي الحالة الاقتصادية وفشل الدولة في توفير ابسط الخدمات للمواطنين. ليس هناك الا تفسير واحد، فاعضاء هذه الجمعية وضعوا منذ البداية مصلحتهم الخاصة فوق كل اعتبار مستغلين طموحات وآمال الشعب، كما اثبتت الوقائع في الاشهر العشرة الماضية. واذا كان النظام السابق قد تفنن في منح (المكرمات) فقد برع نظامنا الحالي في اخذها، وبقي الشعب في الحالتين متفرجا يحاول يستوعب ما يجري.