Wednesday, February 23, 2005

الباجة جي.. وااسفاه !!

جاءت نتيجة الانتخابات دون مفاجآت كبيرة. فقد كانت التوقعات بفوز قائمة الائنلاف العراقي الموحد باغلبية من المقاعد البرلمانية تفوق حتى النسبة التي حصلت عليها القائمة فعلا. بينما كانت حصة الاكراد وقائمة رئيس الوزراء منطقية الى حد ما.
غير ان الملاحظ ان هناك قوى سياسية لها نأثيرها في الساحة العراقية اما حصلت على نسبة ضئيلة، او غابت تماما عن التشكيلة البرلمانية. فالحزب الشيوعي العراقي ذو التاريخ الحافل، والقاعدة الجماهيرية الواسعة، والشخصيات القيادية المرموقة، لم يستطع ان يحصل على اكثر من مقعدين في الجمعية الوطنية. اما تجمع الديمفراطيين المستقلين الذي يتزعمه عدنان الباجة جي، والذي منحته شخصيا صوتي ، فلم يستطع الحصول على أي مقعد.
ورغم ان التنافس كان قائما على اشده بين قائمة الائتلاف العراقي (التي قيل ان المرجعية الشريفة تدعمها) وقائمة اياد علاوي (المدعوم من موقعه القيادي)، وكانت النقاشات تدور في كل مكان حول اولوية التصويت لاحدى هاتين القائمتين، فانني اخترت ان امنح صوتي لغيرهما. ليس لعدم قناعتي باي منهما، ولكن لاسباب توفرت في من اخترت. فالباجة جي شخصية سياسية مخضرمة، ويمتلك حنكة سياسية ودبلوماسية قلّ نظيرها. وقد كان له دور في عملية بناء الامارات العربية المتحدة كونه احد مستشاري حكومة هذه الدولة. وهو لم يمارس الاعيبا سياسية لحمل بعض الاطراف على تنصيبه رئيسا للعراق، رغم انه كان مرشحا قويا لهذا المنصب من قبل الادارة الامريكية. وعندما عاد الى العراق لم يستول على املاك الدولة ويتخذها مقرا، كما فعل الكثيرون غيره، بل استأجر بيتا من ماله الخاص.
وعندما حان وقت تسليم السلطة، ورشح هو لمنصب الرئيس واحد اطراف كتلته الحالية السيد مهدي الحافظ لمنصب رئيس الوزراء، لم يحتج ولم يدخل في مهاترات اعلامية حينما ذهب كلا المنصبين الى غيرهما، ولم يعرقل المسيرة الديمفراطية، وانما فسح المجال لانتفال هاديء للسلطة. وهو بعد ذلك سني المذهب، مما يجعله بحاجة الى الاصوات، بعد ان تأكد غياب الطائفة السنة عن الانتخابات.
غير ان المفوضية العليا للانتخابات فاجأتنا –كعادتها- باصدار النظام المرقم 17 قبيل اجراء الانتخابات، والذي حدد الكيفية التي توزع بها المقاعد البرلمانية بين الكيانات السياسية. وبموجب هذا النظام حرم كل كيان سياسي لم يحز على (الحد الطبيعي)، وهو حاصل قسمة الاصوات الصحيحة على عدد مقاعد الجمعية الوطنية، والذي بلغ (30750 صوت)، مما حرم كيانات سياسية كثيرة من الحصول ولو على مقعد واحد، وهو ما يذكرني بالاية الكريمة (ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب).
ولان الباجة جي حصل على 26 الف صوت فقط، فان عليه الانتظار لحين الانتخابات القادمة من اجل الحصول على مقاعد برلمانية لكتلته. وفي هذه الاثناء سيقوم الفائزون بكتابة الدستور، وسيسألون الاطراف التي غابت عن البرلمان المشاركة في تلك العملية، دون ان يكونوا فعلا قادرين على نلك المشاركة، لعدم توفرهم على اصوات داخل الجمعية. وربما ستعتمد نفس الانظمة الانتخابية (المجحفة) الحالية، خصوصا وانها هي التي اوصلت كتّاب الدستور الى سدة الحكم، مما سيجعلهم يميلون الاعتقاد بجدواها.
بقي ان الباجة جي يبلغ الثانية والثمانين عاما من العمر، وانا اذ ادعو الله ان يمدّ في عمره، اشعر بالخسارة التي يفقدها العراق بجعل مثل هذه الكفاءات تقف في طابور الانتظار، بينما يستقل البرلمان من هو اقل خبرة وكفاءة، وعمرا. فما احوجنا اليوم الى عدنان الباجة جي، واخرين مثله، وما اغنانا عن اناس غيرهم لعبوا على الحبلين من اجل الوصول الى الجمعية الوطنية، ثم الى الوزارة او رئاسة الوزراء او الرئاسة؟

Wednesday, February 09, 2005

ما رأيك..؟

قص لي احد الاصدقاء طرفة كانت تروى ايام نظام الطغيان في العراق، عندما كانت الافواه مكممة والعقول محجمة والاراء مصادرة. فقد جمعت مقابلة اذاعية ثلاثة صحفيين، امريكي ومصري وعراقي. وكان ان قدّم المذيع سؤاله قائلا: "ما رأيكم بازمة (اللحمة)"؟ فقال الصحفي الامريكي: "انا اعتذر عن الاجابة لانني لا اعرف معنى (الازمة)"، وقال المصري: "انا اعتذر عن الاجابة لانني لا اعرف (اللحمة)"، وقال العراقي: "انا اعتذر عن الاجابة لا انني لا اعرف (ما رأيك)". تلك كانت صورة العراق، على كل حال، في زمن العتمة الصدامية.
ولكن محتوى هذه الطرفة تغير اليوم بشكل كبير. فبعد الهجوم (القاعدي) على قلب الولايات المتحدة الامريكية اضحت كلمة (ازمة) مألوفة لاسماع مواطنيها، وبعد الانفتاح الاقتصادي والابتعاد عن شعارات الحرب المصيرية وتوجيه الموارد نحوها، عرف الشعب المصري (اللحمة) وصارت شيئا عاديا كما هو الحال في جميع انحاء العالم. وبعد انتحار نظام صدام في حربه الاخيرة، تفجرت حرية الشعب العراقي، بما يجعل لكل مواطن عراقي رأيا يعبر عنه بكل حرية، بغض النظر عن اي اعتبار اخر.
ولكن (الحرية) التي حصل عليها العراقيون، رغم انها ذات اكبر مساحة بين دول وشعوب المنطقة، الا انها لا زالت تصدم بموانع تحددها الى حد ما. فحرية التعبير عن الرأي التي يكفلها الدستور (المؤقت) تمارس بشكل واسع، في الصحف والمذياع والتلفاز، وفي المقاهي والنوادي والبيوت. ولكن هناك مرادف لحرية التعبير عن الرأي وهو حق الاخر في الاختلاف. ان التعبير عن الرأي وحق الاختلاف لا يعتمد بشكل اساسي على عدد وتوزيع الاراء، اذ لا يعني وجود عشرة اشخاص متفقين على رأي، ان الشخص الذي يختلف معهم بالضرورة على خطأ. وكثير من الناس، وبالاخص المثقفين منهم، يقعون في هذا الخلط. فالدعوات الكبرى في التاريخ بدأت باشخاص يختلف معهم اكثر من حولهم، دون ان يمنعهم ذلك عن الاستمرار في الدعوة وكسب التأييد لها.
من ناحية اخرى، فان محاولة السيطرة على عقول الناس، باستخدام طرق الضغط التقليدية، مثل الادعاء بحيازة العلم، او الاستناد الى المقدس، هي امر يقاطع تماما حرية التعبير عن الرأي، اذ انها تتضمن الغاء وتهميش الاخر طالما كانت النتيجة محسومة لصالح المدعي سلفا. والرأي العام ليس ميدانا للاختصاص، كما هو الحال في ميادين العلم والفن والادب المختلفة. بل هو مجموعة اراء فردية يعمل المجتمع على تنقيحها وصقلها واخراجها بشكل يخدم اكبر شريحة ممكنة، ويعبر عن وجهة نظرهم. وليس شرطا ان تكون هذه الشريحة ممثلة لطائفة او عشيرة او عرق، بل ان الشريحة قد تكون جميع الشعب، او اجزاء منه تجمعها المصلحة المشتركة.
والرأي العام، بعد ذلك، مقياس نجاح اداء الحكومة واستقرار ومتانة النظام السياسي.. لذلك فمن الخطر التحكم به بالتوجيه والاشراف، اواعتماد وسائل التمويه واخفاء الحقائق او استعمال ضغوطات نفسية او عقائدية او فكرية، للوصول الى رأي عام مساند. ورغم ان السياسيين طالما عمدوا الى مثل هذه الوسائل للوصول الى مآربهم، على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، الا ان القادة الذين يذكرهم التاريخ بكل اجلال واحترام لا يلجأون الى مثل الاساليب. فالخداع ليس الا خداعا،وان تعددت وسائله وتزينت طرقه، وسينكشف في وقت لاحق، وسيكون الثمن عندذاك فقدان الثقة، بهؤلاء السياسيين اولا، ثم بالنظام السياسي اخيرا.