Tuesday, November 29, 2005

ضياع الهوية ام ضياع المقاعد النيابية؟

بدأت الحملات الانتخابية للقوائم المرشحة لمجلس النواب بالتصاعد يوما بعد يوم. وغزت الشوارع والساحات والبنايات الحكومية والاهلية وغيرها لافتات تدعو المواطنين الى التصويت لهذه القائمة او تلك. وحاولت الكيانات السياسية من خلال ملصقاتها ولافتاتها واعلاناتها المتلفزة ان تشرح برامجها الانتخابية، لحث الناخبين على الادلاء باصواتهم بموجب هذه البرامج. وركزت بعض هذه الاعلانات على شخصية معينة من بين المرشحين على اساس انها تمتلك المواصفات الكفيلة بتحقيق امال الشعب العراقي وارساء الأمن وتحسين الخدمات واعادة الاعمار وغير ذلك من الاهداف التي تلامس قلوب العراقيين الطامحين لتحقيق ابسط قدر منها على الاقل.
والحق ان هذه الدعاية الانتخابية هي بحد ذاتها مكسب للشعب. فبخلاف ما جرى في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني، لم ترتكز هذه الدعاية على استلاب حرية المواطن وتحديد خياراته من خلال استعمال الرموز الدينية وتوظيفها لصالح قائمة بعينها. وهذا يؤشر تطورا مهما في العملية الديمقراطية قد يكون سببه زيادة الوعي الانتخابي لدى الشعب. كما ان مثل هذا التطور خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة يؤكد حضور الذهنية العراقية ويقضتها. ولو حاولت قائمة ما ان تسعى لاقحام الدين كعامل حاسم في التصويت لاصيبت بنكسة كبيرة قد لا تستفيق منها ابدا.
ولكن اسس الدعاية في الانتخابات الحرة لم تستقر بعد، ولم تصبح متينة بما فيه الكفاية لتجاوز الدعاية السلبية القائمة على الطعن في الاخرين لمجرد اسقاطهم، وتحديد خيارات الناخب لصالح القائمين عليها فقط. من ذلك ادعاء البعض ان الانتخابات القادمة هي انتخابات (تحديد الهوية)، بمعنى ان نتائجها يجب ان تعكس اطياف الشعب العراقي بنسبة مماثلة لاعدادها السكانية. ورغم ان هذا المبدأ يبدو منصفا، الا ان اعتماده اساسا في التصويت قد يؤدي الى عواقب وخيمة. فلو كان التمثيل البرلماني قائما على الطائفة او العرق لكانت الفئة الاكبر هي التي ستتولى اتخاذ معظم القرارات طالما انها تمتلك الاغلبية في مجلس النواب. غير ان مجلس النواب لا يختص بطائفة وان كانت اغلبية الشعب. واوضح مثال على ذلك انتخاب رئيس للعراق من الطائفة الكردية، ومع ذلك فقد مثل العراق في شتى المحافل ومنها جامعة الدول العربية، رغم انه ليس عربيا.
واذا كان القانون الانتخابي الحالي يتيح المجال امام المحافظات لارسال ممثليها الى البرلمان، فليس معنى ذلك ان هؤلاء سيكونون ممثلين لمحافظاتهم فقط، بل انهم ممثلين لجميع العراق. وحقيقة انهم اصبحوا في مجلس النواب بفضل اصوات محافظاتهم يحملهم مسؤولية تلك المحافظات، ولا يعفيهم من اثبات اهليتهم على المستوى الوطني كجزء من رد الفضل الى تلك المحافظات التي صوتت لهم. ولهذا فان العامل الاساس في التصويت يجب ان يكون اهلية المرشحين وكفاءتهم علاوة على البرنامج الانتخابي، بغض النظر عن الطائفة او العرق.
ان مبدأ (تحديد الهوية) انما هو مناورة انتخابية لاستجلاب الاصوات لهذه القائمة او تلك، وصرف النظر عن مرشحيها. ولو كانت هذه القائمة او الكيان تعتقد باهلية مرشحيها او اخلاص برنامجها الانتخابي لما سعت الى استخدام هذه المناورة. فالانتخابات وسيلة ديمقراطية للتعبير عن طموحات وامال الشعب. وفكرة الانتخابات الحرة قائمة على ان المواطن حر، بدنيا ونفسيا وفكريا، في الادلاء بصوته لصالح الجهة التي يعتقد انها الافضل تمثيلا له.
بالطبع يمكن الاحتجاج ان الحالة المثالية للانتخابات الحرة غير ممكنة، وهذا صحيح ككل الاشياء المثالية في حياة البشر. لكن الحكم في ذلك يعود الى مقدار اقتراب الحالة قيد النظر من الحالة المثالية. فالقول للناخبين ان برنامج قائمة ما يتضمن كذا وكيت، يختلف عن القول لهم ان التصويت لقائمة اخرى هو امتثال لامر ديني. ففي الحالة الاولى يمكن تصور خلاف الموضوع المطروح، بينما لا يمتلك الناخب في الحالة الثانية خيارا في تصور الخلاف. ولهذا فان الحالة الاولى اقرب الى قواعد الديمقراطية من الحالة الثانية. وقد يكون برنامج القائمة في الحالة الاولى محض تصورات غير واقعية ويكون مرشحو هذه القائمة غير اكفاء او وصوليون طامعون في المنصب والجاه. ولكن ذلك لا يعني انهم اسوأ من مرشحي القائمة التي تتحزب للطائفة على اساس الخوف من ضياع الهوية، او القائمة التي تستند الى المقدس بدعوى حسابات فلكية عجيبة. من ناحية اخرى، فان كثرة القوائم والكيانات المتنافسة في هذه الانتخابات ادت الى تشوش ذهنية الناخب وتشتته بين البرامج الانتخابية والاحزاب والشخوص، علاوة على العوامل القومية والدينية والثقافية التي تحدد خياراته. وتجد الكثير من المواطنين يعبر عن اعجابه بشخصية ما في احدى القوائم، وبشخصية اخرى في قائمة اخرى.. ومع ذلك فهو يعتقد ان عليه ان يصوت لقائمة مغايرة لكل منهما. وسبب هذا التنازع، ان هناك كما هائلا من الخيارات، يقابله تشابه في البرامج، مما يجعل الناخب في حيرة كبيرة ويحثه الى اتباع الطريق الاسهل عادة، مثل التصويت على اساس ديني او عرقي او طائفي.
لذلك فاننا ندعو الى النظر بروية في البرامج الانتخابية اولا، والى سيرة المرشحين ثانيا، وخصوصا ما افرزته المرحلة السابقة من شخصيات وطروحات فكرية وسياسية. ومسؤولية التصويت هي في النهاية ذاتية غير مرتبطة بالحزب او الطائفة او المذهب او العرق.

Tuesday, November 22, 2005

من الحلة الى عمّان.. ارهاب واحزاب

في الثامن والعشرين من شباط الماضي قام انتحاري يقود سيارة مفخخة باستغفال الشرطة المحلية التي كانت تقف على مقربة من العيادة الشعبية في مدينة الحلة، وإلتف من شارع جانبي ليفجّر سيارته في طابور من طالبي التوظيف الذين كانوا ينتظرون خارج العيادة لفحصهم طبيا، مما تسبب في مقتل وجرح العشرات منهم. وافادت التقارير حينها ان هذا الانتحاري هو اردني الجنسية ويدعى رائد البنا، وان اسرته قد تلقت التهاني بـ(استشهاده)، مما ادى الى قيام آلاف العراقيين بالتظاهر في بغداد والمدن العراقية الاخرى. وقد هاجم المتظاهرون السفارة الاردنية في العاصمة العراقية واقتحموا المبنى واحرقوا العلم الاردني، كما طالبوا بترحيل كافة العرب من العراق وشتموا الملك الاردني عبدالله الثاني. وجاء في بيان اصدرته الحكومة العراقية انها "تدين مظاهر الفرح التي ابدتها عائلة الانتحاري الاردني، وان رئيس الوزراء العراقي قد قام شخصياً باستجلاء الموقف من الحكومة الأردنية، معبراً لهم عن غضبه واشمئزازه من هذه الفعلة"، ومضى البيان الى القول: "إن هذا الفعل من شأنه أن يلهب مشاعر أبناء شعبنا تجاه أشقائهم في المملكة الأردنية ويسيء إلى علاقات الاخوة وحسن الجوار." من ناحيتها، اعلنت السلطات الاردنية انها القت القبض على الصحفي الذي كان قد اورد الخبر، لنشره اخبارا كاذبة تسئ للبلاد. كما نشرت الصحيفة التي يعمل الصحفي لحسابها تصحيحا من اسرة البنا تنفي فيه ضلوعه في هجوم الحلة.
وفي التاسع من تشرين الثاني تعرضت ثلاثة فنادق سياحية في عمّان الى هجمات انتحارية، ثبت فيما بعد انها من فعل ثلاثة انتحاريين عراقيين، بالاشتراك مع زوجة احدهم ولكنها فشلت في تفجير نفسها في تلك العملية. وادت هذه الهجمات ايضا الى اصابة ومقتل العشرات من الضحايا الابرياء الذين كان معظمهم يشارك في حفل زواج. وعلى خلفية هذا الاعتداء استقبل رئيس الوزراء الاردني وزير الدفاع العراقي الذي نقل رسالة الى العاهل الاردني من رئيس الوزراء العراقي تتضمن تنديده واستنكاره للاعمال الارهابية التي تعرضت لها العاصمة عمّان. وقال المسؤول العراقي انه يحمل كذلك رسالة تعزية ومواساة من الحكومة والشعب العراقي الى "اخواننا واهلنا في الاردن لان مصاب الاردن هو مصاب للعراقيين". واضاف نحن نشكل ساحة واحدة نتشارك في السراء والضراء وشركاء في مواجهة الارهاب الذي لا يفرق بين مدينة واخرى وبلد واخر. كما اكد وزير الدفاع العراقي ان العراقيين في الاردن هم بين اهلهم وان "اخواننا في الاردن لم يقصروا معهم اما من يسيء الى نفسه واهله فهذا له حساب اخر ولكن ما لمسته انه لا يوجد أي شيء ضد العراقيين الموجودين هنا".
فما الذي تغير بين شباط وتشرين؟ وكيف رُققت لهجة الحكومة العراقية واصبحت اكثر تعاطفا وشعورا بالمسؤولية؟ لاشك انها الحقيقة التي طالما هربت منها، وانكرتها ورفضتها، وهي ان العراقيين هم ايضا يمكن ان يكونوا انتحاريين، وانهم هم ايضا يمكن ان يصدروا ارهابا. فقد كانت العقيدة السائدة قبل تفجيرات عمّان ان ما يحدث من هجمات انتحارية في العراق انما هو من فعل (المجاهدين) العرب المغرر بهم، والذين دخلوا العراق بصورة غير شرعية. والحكومة العراقية كانت تلمح حينا وتصرح احيانا اخرى الى تلقي هذه المجموعات الدعم الخارجي وتدعو بلدان الجوار الى حفظ حدودها.
لا شك ان الكثير من العمليات الانتحارية وغيرها قد تم تنفيذها عن طريق هؤلاء المتسللين. ولا ريب في ان بعض دول الجوار لا تولي مسألة حماية الحدود المشتركة الاهتمام الكافي لاسباب سياسية ولوجستية، وانها ربما تكون ضالعة في تلك العمليات. ولكن ما حدث في عمّان قد كشف الوجه الاخر للقصة، واصاب العراقيين بصدمة جديدة تضاف الى صدماتهم السابقة. والعراقيون لم يستفيقوا بعد من صدمتهم بحكومتهم المنتخبة، وصراعها وتهافتها على السلطة واهمالها لشؤون المواطنين، ولم يفرغوا بعد من قراءة الدستور الذي لم يروه قبل ان يصوتوا عليه، ليجدوا انهم ضحايا حملات التضليل المنظم، وانهم أستخدِموا كأداة في السياسة الداخلية للاحزاب المتنافسة، حتى على حساب العلاقات الدولية وما يمكن ان ينتج عنها من تداعيات قد لا تحمد عقباها. فالذين اججوا المظاهرات ودفعوا الجموع الى اقتحام السفارة واحراق العلم الاردني، مستندين الى اخبار لم تثبت صحتها، لم يخرجوا لاظهار التعاطف مع ضحايا تفجيرات عمّان والتي ثبت انها من فعل عراقيين. كيف وهم إنما دفعتهم الى اتخاذ ذلك الموقف اجندة سياسية معينة لم تعد خافية على الشعب العراقي. وقد كان الاولى، قبل القاء التهم جزافا وتأليب الرأي العام، ان يتم التحقيق في جريمة الحلة وغيرها، باستخدام الوسائل التقنية المتاحة، لتحديد هوية المعتدي ومن يقف وراءه. ولكن يبدو ان بعض السياسيين في عراق اليوم لم تعد تهزهم التفجيرات اليومية، ولا سقوط العشرات من القتلى والجرحى، ولا ثكل الارامل ويتم الاطفال. فهؤلاء غرّهم الكرسي والمنصب والجاه كما غرّ صداما من قبل، ولا عجب!!

Tuesday, November 15, 2005

سوريا بين المطرقة والسندان

منذ بداية التغيير الديمقراطي في العراق، والذي تزامن مع ظهور الحركات التكفيرية و(الجهادية) وما يسمى بـ(المقاومة)، اشارت اصابع الاتهام المرة بعد الاخرى الى الدولة العربية (الشقيقة) والمجاورة للعراق بدعمها لتلك الحركات، علاوة على ايوائها لعناصر النظام السابق الذين لعبوا دورا مهما في التمويل والتخطيط للهجمات المسلحة في انحاء العراق كافة. ولكن سوريا انكرت باستمرار تلك الاتهامات، و(فبركت) مسرحيات للتدليل على انها هي ايضا هدف للارهاب، وبالتالي فان من مصلحتها ان تحاربه فضلا عن عدم ايوائه. ولكن المصاديق على ارض الواقع كانت تثبت العكس دائما. فالحكومتان العراقيتان السابقة والحالية، امتلك كلاهما ادلة دامغة على هذا التورط، وسعت الوفود المتتالية الى ايجاد ارضية للتعاون من قبل الجانب السوري استنادا الى التصريحات المعلنة من قبله. وقد وصل الامر الى حد ان يشك المسؤولون العراقيون ان الرئيس السوري لا يعلم ما يدور من وراء ظهره، اذ ليس من المعقول ان تكون سياسية اية دولة بهذا المقدار من الازدواجية بين ما تعلنه من مواقف رسمية، وما تخطط له في دوائر مخابراتها.
ومن ناحية اخرى، فان سوريا لم تخفِ تورطها في لبنان، على المستوى العسكري او المخابراتي، وتحكمها في شؤون ذلك البلد (الشقيق) والمجاور لها. وقامت برفد المليشيات اللبنانية بالمال والسلاح والتدريب بحجة (دعم المقاومة الوطنية).. ولكنها لم تنشأ اية (مقاومة) في الجولان وهي اراضيها المحتلة منذ عام 1967. وعلى مدى عقدين من الزمن آوت وساعدت حركة التمرد التركية بزعامة عبد الله اوجلان، ثم اضطرت الى ترحيله بعد ان حشدت تركيا الجيوش على حدودها مع سوريا في محاولة لانهاء ذلك التمرد والقبض على زعيمه. وكانت لسوريا ايضا مشاكل مع الاردن، الجار العربي الاخر، والتي ادت الى غلق الحدود بينهما لفترة طويلة. ولا ننسى ان حدودها مع العراق بقيت مغلقة فترة تقارب العقدين بسبب الخلاف الايديولوجي بين جناحي حزب البعث الحاكمين في كل من البلدين.
وهكذا يتضح ان لسوريا علاقات متوترة وتدخل في شؤون جميع البلدان المجاورة، ولكنه كان سافرا الى حد كبير في الحالة اللبنانية. وهذا التدخل سبب تذمرا في اوساط القوى الوطنية اللبنانية، والتي سعت الى طرد القوات السورية من الاراضي اللبنانية من خلال الدبلوماسية الدولية، ومجلس الامن. واثمرت تلك المحاولات باصدار القرار الاممي 1559 الذي طالب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح المليشيات اللبنانية، خصوصا المدعومة من قبل سوريا.
ولكن سوريا التي انتهجت على الدوام سياسة (حافة الهاوية)، كانت تتجاهل تلك القرارات والرغبة الوطنية اللبنانية، دون ان تتعض من التجربة التي مرّ بها النظام السابق في العراق حين واجه المجتمع الدولي، وقاد ذلك الى سقوطه. والواقع ان السياسة السورية انتهجت نهجا مغايرا، وان كان السيناريو متشابها. فحين احتل النظام العراقي دولة الكويت، وافقت سوريا على ان تكون ضمن القوات المتحالفة لتحرير الكويت، ولكنها لم تطلق طلقة واحدة في تلك الحرب. وهي وافقت كذلك على التفاوض مع (اسرائيل)، وان ماطلت وضيعت الفرص المتتالية لاسترجاع الجولان سلميا. وهي انسحبت من لبنان عسكريا بعد (انتفاضة الاستقلال) التي شهدتها لبنان عقب مقتل الرئيس الحريري، وان ظل شك في بقاء عناصر مخابراتها هناك. فهي تتظاهر انها تفعل ما يراد منها عندما يشتد الضغط عليها، ولكنها تفعل فقط الجزء الاقل اهمية، لتبقى مممسكة بخيوط اللعبة.
والمجتمع الدولي ليس غافلا عن هذه الحقائق. ولكن من طبيعة السياسة الدولية ان تنتظر الفرصة الملائمة. وقد لاحت تلك الفرصة بعد ثبوت تورط العناصر المخابراتية السورية، وبتواطؤ مع عملائها في لبنان، في مقتل رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري. وبدأت القوى الدولية في الضغط على سوريا في نفس الوقت الذي تعرض تلك القضية على مجلس الامن الدولي. وشكل مجلس الامن لجنة للتحقيق برئاسة ميليس. وجاء في تقرير تلك اللجنة انه (يصعب ان يتصور حصول الاغتيال بدون علم سوريا نظرا لتواجدها العسكري والامني في لبنان). وفي محاولة لتسفيه هذا الاستنتاج قال وزير الخارجية السوري لمجلس الامن ان ذلك يعني فيما يعنيه ان الولايات المتحدة متورطة في احداث 11 أيلول، وبريطانيا متورطة في احداث 7 تموز. فاجابه وزير الخارجية البريطاني انه اذا كان يلمح الى اشتراك هاتين الدولتين في اعمال الارهاب التي وقعت على اراضيها، فان عليه ان يقول ذلك صراحة. ولكن الوزير السوري لم يجب بشيء، فالقياس هنا مع الفارق. ان سوريا متهمة في نظر مجلس الامن بخلاف الدولتين الغربيتين، وليس من رد الاتهام القول لماذا لا تتهمون الاخرين؟ وفي خطابه الاخير حمل الرئيس السوري على العراق لعدم تعاونه في منع الارهاب، ولبنان كونها ممرا للمؤامرات على سوريا. وهي ذات السياسة السورية العتيقة، من التنصل واتهام الاخرين بما يتهموه بها.
قد لا يكون ا لسيناريو الذي اسقط صدام سوف هو ما سيعتمد في حالة النظام السوري. ولكن سوريا باتت بين مطرقة مجلس الامن الدولي وسندان الرفض الاقليمي لسياساتها. وبذلك فلن تستطيع ان تستمر في دعم (الارهاب)، ولا التحرش بدول الجوار اكثر مما فعلت. وستضطر، كما اضطرت في الماضي، الى تغيير سياساتها في المنطقة لتجنب الحرب التي ستسفر عن تغيير هذا النظام في سلسلة التغييرات الحتمية. وربما ستؤتى من الحكمة القدر الكافي للاعتراف بالذنب، والسعي الى اصلاح نظامها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة.

Tuesday, November 01, 2005

حق الحياة المقدس

خلال مسيرة الانسانية تطورت الكثير من المباديء وتهذبت وتشذبت بحيث اصبحت تميزه، وتسجل تحضره وانتقاله من حياة الصيد والغابة الى حياة المجتمع الزراعي والصناعي، واتاحت له التعايش بسلام وامن مع ابناء جنسه. وهذه المباديء ليست بالضرورة ان تكون من صنع الانسان نفسه، بل ان جلّها قد يكون اوحي اليه من خلال الديانات السماوية السامية والتي ارتقت بهذا الكائن الضعيف واكرمته، وعلمته ان يقدس الحياة البشرية ويجعلها اول المحرمات على افراد المجتمع.
ان حق الحياة المقدس ضمنته الديانات كافة، سماويها وارضيها، والقوانين الوضعية على مدى التاريخ المدون في كل الحضارات الانسانية التي نشأت بمختلف اصقاع الارض. والقاسم المشترك لهذا التقديس ان الحياة لا يمكن ان تنتهك الا قصاصا. والقصاص لا يكون الا ببينة وحكم من سلطة مختصة، مع منح المتهم حق الدفاع عن نفسه.
والحروب سمة اخرى من سمات التطور البشري. وهي كثيرا ما اخذت طابع الدفاع عن اهداف نبيلة ومباديء سامية، واكتسبت في بعض الاحيان تسمية الحرب (العادلة). لكنها كانت على الدوام وسيلة لفرض رأي احدى الجهتين المتقاتلتين على الجهة الاخرى. والحرب تعمل على توحيد المجتمع بشكل يفوق ما يمكن لنعم السلم ان تفعله، لانها تضع وحدة المجتمع ووجوده على كفتي ميزان. ولطالما وافق ابناء المجتمع على خوض حرب لم يوافقوا على دخولها اصلا. والزعماء ادركوا ذلك منذ البداية، فجعلوا اشعال الحروب ديدنهم وشغلهم الشاغل. واكتشف هؤلاء ان ربح الحرب يطيل عمرهم ويمدهم باموال تعينهم على البقاء في السلطة، بينما خسارة هذه الحرب يحولهم الى رموز وطنية يحتفل بهم ويمجد لهم.
ان المجتمعات المختلفة اوجدت طريقة للتعايش رغم الاختلاف تقوم على تبادل وجهات النظر واحترام حق كل طرف في ان يعتقد بما يشاء وان يفعل ما يشاء ضمن حيزه ومنطقته. وعمل التبادل التجاري على تقوية الاواصر بين المجتمعات واذابة الفروقات التقليدية. ونشأت روابط اجتماعية نتيجة لهذه الاواصر التجارية وطوعت، رويدا رويدا، بعض المعتقدات والتقاليد لتناسب كل من تلك المجتمعات مع احتفاظ كل منها بخصوصيته وتميزه.
وبالمقابل، بقي نفر في كل مجتمع ينادي بالتقاليد (الاصيلة) ويتباكى على الاعراف المنتهكة. وهؤلاء وان لم يحصلوا على اغلبية في مجتمعاتهم، وانعزلوا في صوامع بعيدة، ونعتوا بالتطرف والتشدد، الا انهم لم يُعدموا موافقة صامتة على مواقفهم. فهم من نسيج ذلك المجتمع ومن نتاجه. وابناء المجتمع الواحد مهما يكن اعتدالهم، لا يستطيعون تقبل التعديل والتحريف على معتقداتهم خلال جيل او جيلين. وهم قد لا يقاومون مثل هذه التعديلات مباشرة، الا انهم لا يمنعون من يقوم بتلك المقاومة، حتى وان سلك طرقا خاطئة في مقاومته تلك.
وهكذا، اذا شعر المجتمع ان قيمه تتعرض الى تغيير (قسري)، حتى ولو كان هذا الشعور ناجما عن جهل ذلك المجتمع بطبيعة ذلك التغيير، فانه لن يسعى الى ايقاف المعارضة المتطرفة. بل انه سيشعر ان السماح لتلك المعارضة بالعمل هو جزء من الواجب المتروك. ولان مبدأ الحرب يحتم انتهاك قدسية الحياة، فان الزعماء المتطرفين لن يجدوا غضاضة في الامر بالقتل والتقتيل لتحقيق مآربهم التي يريدون ان يقنعوا الشعب انها مآربه هو ايضا.
ان ما نشهده اليوم من تطرف في اماكن كثيرة من العالم الاسلامي هو مصداق لما تقدم. فالكثير من المسلمين يعتقد ان هناك مؤامرة غربية على دينهم، وانهم مستهدفون لانتمائهم. واستغل المتطرفون في تلك المجتمعات الاسلامية هذه المخاوف في تجنيد الاتباع، واستباحة الانفس تحت شعار (الحفاظ على الدين) وتصوروا انهم يخوضون حربا مقدسة لانقاذ الدين من هجمات (الكفار). ولكن الحقيقة ان التغيير الذي يحدث اليوم يشمل كل الحضارات والاديان، نتيجة الطفرات العلمية المتتالية، والثورة المعلوماتية، التي الغت الحواجز التقليدية واتاحت لافكار جديدة ان تغزو كل حضارة وكل مجتمع. واذا بدأنا باقناع المجتمعات الاسلامية بان التغيير ليس موجها ضدها، فقد يكون ذلك هو المفتاح لمكافحة التطرف والارهاب الناجم عنه، واعدنا لحق الحياة قدسيته من جديد.