Wednesday, July 05, 2006

إرزيج شارع المكتبات

(1)
في زاوية صغيرة بركن الشارع الصاخب، انزوى (إرزيج) هاربا من تهكمات كثيرة، بعضها مازح واغلبها خبيث، جلس يجتر احزانه بحدبته المشوهة التي جعلته اضحوكة بين اقرانه وحرمته من العيش بسلام. كان يتفكر، رغم ضحالة عقله، في سبب اختلافه عن بقية خلق الله، ويتمعن في ما قاله له الشيخ محمد قبل ايام من ان الله عادل اذا اعطى الانسان شيئا أخذ منه شيئا في المقابل، وان لا احد كامل،
وان اهون النقص نقص الجسم لا العقل، وغير ذلك مما يريح الاعصاب من التفكر والتمعن الطويل. وبينما هو في تأمله الحزين اذ به يسمع صيحات تناديه فيهب واقفا ويتطلع حوله ليكتشف ان احد اصحاب المحلات في شارع المكتبات يناديه ليجلب له كوبا من الشاي. يهرول الى المقهى ليحضر الشاي مارا في الذهاب والاياب بنفس الاشخاص الذي هزءوا به قبل دقائق. لم ينبس احدهم ببنت شفة، وتجنب هو النظر اليهم او الكلام معهم. عاد الى زاويته منتظرا امرا اخر. هكذا كان يكسب قوته ويمضي نهاره. وربما يحصل في الصيف على قطعة ثلج من دكان الحاج موسى يضعها في كوزه عندما يعود الى بيت عمه في التعيس. او يجود عليه الحاج رفش شتاءا بقطعة من الحلاوة الدبسية اللذيذة والتي تحتوي على سعرات خيالية. وتمضي ايام وفصول شارع المكتبات. من مكتبة المعارف الى تسجيلات صوت الحب، يتوسطها محل بقلاوة الحاج صادق الشكرجي. ومن ترويقات ابن الماشطة الى مديرية الجنسية مرورا بمقهى ابو عامر ومحل الحاج محمد سعيد ابو البسامير. بنايات تـُهد واخرى تقام، وناس يموتون واخرون يولدون. شارع المكتبات الذي كان زاخرا بها لم تعد فيه سوى مكتبة الفرات لصاحبها المرحوم الحاج مهدي السعيد، لازالت عامرة باولاده وان كانت خالية تقريبا من (الكتب).
(2)
في زاوية صغيرة من شارع المكتبات الذي استحال الى شارع الكهربائيات العادية، وباعة الرصيف الذين استحلوا الشارع ايضا، وبعضا من المطاعم التي تتصدرها سماعات صوتية ضخمة وهي تصدح بالاناشيد الحسينية او التعزيات في كل اوان تقريبا، استوى (إرزيج) على بسطة لبيع القداحات الغازية الرخيصة، يتقلب من جانب الى آخر هاربا من اشعة الشمس اللافحة في حزيران، منتظرا حلول المساء ليأخذ غلته الى اطفاله الذين اخذوا يتضاعفون كل عام دون ان يجد لذلك حلا. فهو لا يتحمل مسؤولية من انجب فقط، وانما من انجبهم اقرباؤه الذين حصدتهم العمليات الانتحارية والعبوات الناسفة والاغتيالات شبه المنظمة، او الذين جاءوا هاربين من (المناطق الساخنة) وصاروا لاجئين في وطنهم. مالت الشمس قليلا خلف عمارة غفار الشهيب لتأذن بالرحيل، واحتشد الناس في شارع اللامكتبات لاقتناء آخر فقرات التسوق لهذا اليوم. جلس الى بسطيته وقرر انه سوف يرحل بعد ان ينتهي من استنشاق سيكارته، فكر ان قد دخن اكثر قليلا من العادة، قال في نفسه: اليوم انا ضجر.. سوف اقلل من التدخين غدا.. ان شاء الله. فتح الصندوق الذي يجمع فيه نقوده ليعد الوارد، وهو يفعل ذلك مرة واحدة فقط في اليوم، عندما يقرر العودة الى البيت. بدأ يعد: واحد، اثنان، ثلاثة... بوم!! لم يعد (إرزيج) موجودا، ولا ندري مقدار (الدخل) في ذلك اليوم.
(3)
في زاوية صغيرة من القمر الاصطناعي الذي يتربع فوق الارض، كان هناك برنامج في قناة فضائية عن الحياة والموت والتاريخ والجغرافيا في العراق. عرضت القناة (إرزيج) وهو يُحمل على عربة لنقل البضائع. لم يتبق منه سوى اشلاء متناثرة ولكنهم عرفوه حتى بدون تحليل الحامض النووي، فمن بين البقايا تلك الحدبة الاليمة التي أنبأت بحياة تعيسة، ولم تتوقع الموت الاتعس. القمر الاصطناعي كان باردا كالصقيع وكذلك مذيع القناة الاخبارية التي لم تكترث لشيء اكثر من ذكر عدد الضحايا، وكلما كان اكثر كلما كان الخبر اهم. قال مخرج البث: سوف يكون تسلسل هذا الخبر في المقدمة، الضحايا كثيرون! القمر الاصطناعي يدور بسرعة دوران الارض حول نفسها فلا يشعر بالحركة، وكذلك مذيع القناة الذي ظل يردد نفس الخبر طيلة الليل واليوم التالي، وفي كل مرة يظهر (إرزيج) محمولا على عربة نقل البضائع، وفي التعليق تقرأ: "عبوة ناسفة في شارع المكتبات جنوب بغداد توقع العشرات من الضحايا"، حتى اسم المدينة لم يعد مهما، رغم ان سكان الحلة يُعدون بقدر سكان واشنطن العاصمة. كل شيء اضحى موقعا على الخارطة او رقما في سجل الضحايا. ولم نعرف كم كان يعيل (إرزيج) ولا كم كانت غلته.