Tuesday, October 25, 2005

الجمعية الوطنية تأخذ المكرمات.. والحكومة تمنحها!

اعتاد النظام المقبور ان يحتفل سنويا بما يسمى بـ(المنجزات) التي حققتها قيادة (الحزب والثورة). وكانت توضع لوحات كبيرة في اماكن مميزة من الابنية الحكومية والمدارس والمؤسسات الصناعية وغيرها تعدد تلك المنجزات. واصبح في وقت لاحق من الواجب على كل مواطن صالح ان يحفظ عن ظهر قلب تلك المنجزات العظيمة، والا واجه انتقادات واتهامات بالعمالة الى احدى الجهات الكثيرة التي تعادي ذلك النظام. وقد كنا نعتقد ان زوال ذلك النظام الفاسد سيؤدي الى زوال هذا التقليد الساذج، الذي يعني فيما يعنيه ان الدولة ليست مضطرة لفعل الاشياء التي تفعلها لخدمة الشعب او لحمايته، وانما هي تفعل ذلك لانها متفضلة عليه. وليس اوضح من استخدام كلمة (مكرمة) في العهد البائد لكل ما يقدم للمواطن حتى ولو كان من (لحم ثوره).
لكن الذي يحدث الان لا يختلف كثيرا من ناحية المبدأ. فـ(المكارم) توزع يمينا وشمالا بدون حسيب او رقيب، وهي تشمل كل شيء تقريبا. فمن التعويضات السخية لبعض (المتضررين) بدون قانون محدد، الى توزيع قطع اراض سكنية على فئات معينة بدون ضوابط اصولية. وكما كان نظام صدام المقبور يقرر في لحظة واحدة ان يمنح (مكرمة) لمحافظة ما، فترصد لها بضعة ملايين تصرف جلها في جداريات وتماثيل للقائد الضرورة، كذلك يقرر اليوم السيد رئيس الوزراء ان يمنح محافظة، او مدنية ما، تخصيصات مالية من اجل تطوير بنيتها التحتية. وهكذا، فليست هناك اهمية للخطط المستقبلية او المرحلية، وليست هناك اعتبارات للضرورات الفنية، وليس هناك من معنى للميزانيات العامة والتخصصيات السنوية. فكل ما يهم هو ان يقال ان (السيد الجعفري) قد منح (مكرمة) لتلك المحافظة، حتى ولو لم تحصل تلك المحافظة على دينار واحد من تلك الـ(المكرمة السخية).
لكن المشكلة قد تكون ابعد من دعاية حكومية لمجلس الوزراء او احزاب السلطة. فالجمعية الوطنية هي الاخرى لم تكن عابئة بشكل واضح بهموم الوطن والمواطن. ورغم ان بعض اعضائها طرح بشكل استعراضي لافت مشاكل وشكاوى فئات معينة من الشعب، الا ان الجمعية لم تصدر، الا ما ندر، قرارا او قانونا يعمل على حل تلك المشاكل، او يحسن حياة الناس بشكل عام. وعدم الاكتراث هذا انعكس بالتأكيد على مستوى الرقابة التي تقوم بها الجميعة الوطنية على مؤسسات الدولة التنفيذية. وزادت الطين بلة المطاحنات والمشاحنات السياسية للكتل السياسية وشخوصها داخل الجمعية ومجلس الوزراء والهيئات الحكومية الاخرى. حتى لكأن الدولة تحولت الى منبر للتناحر السياسي، واصبح الشعب وسيلة لتحقيق المجد الشخصي. ولعل اقرب وصف لهذا الوضع هو (الفساد) بكافة اشكاله: السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الفكري. فلم يعد هناك من يرغب في مناقشة تلك الظواهر السلبية سواء على مستوى القيادة او المستوى الحزبي او المستوى الشعبي. فالكل يريد الحل الجاهز والحكومة المثالية دون ان ينظر الى ما يتوجب عليه ان يفعله.
ومن ناحية اخرى فقد اخذت عملية كتابة مسودة الدستور حيزا كبيرا من اهتمام الدولة. وهذا حق، ولكنه يجب ان لا يكون مبررا لتردي الاوضاع الامنية والسياسية والاقتصادية نتيجة الفساد الذي يضرب ارقاما قياسية. فليس هناك من فائدة في دستور الدولة اذا لم يتم التقيد به والعمل بموجبه. ومع انتشار مظاهر الفساد الاداري، لا يبدو ان هناك ارضية جيدة لتطبيق مباديء اي دستور مهما يكن متسامحا مع تلك الظاهرة.
في اواخر عهد مجلس الحكم السابق قرر اعضاؤه مكافئة انفسهم براتب تقاعدي مجز رغم انهم لم يستمروا في الخدمة العامة سوى بضعة اشهر. ولما جاء المجلس الوطني المؤقت لم يعمل على تغيير هذا القانون بل استفاد منه لمكافئة اعضائه الذين خدموا مدة اقل من مجلس الحكم. والاغرب من ذلك ان تقوم الجمعية الوطنية بنفس التصرف لمنح اعضائها تقاعدا مدى الحياة، رغم انها، بخلاف المجلسين السابقين، جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، وليس بالتسويات والتوافقات السياسية. ومن المعروف ان من يتصدى للخدمة العامة بالطرق الديمقراطية يجب ان يثبت انه لا يعمل لمصلحته الشخصية. ولكن تلك الجمعية سولت لنفسها ان تقوم بهذا التصرف المشين، غير مبالية بمعاناة الشعب نتيجة تردي الحالة الاقتصادية وفشل الدولة في توفير ابسط الخدمات للمواطنين. ليس هناك الا تفسير واحد، فاعضاء هذه الجمعية وضعوا منذ البداية مصلحتهم الخاصة فوق كل اعتبار مستغلين طموحات وآمال الشعب، كما اثبتت الوقائع في الاشهر العشرة الماضية. واذا كان النظام السابق قد تفنن في منح (المكرمات) فقد برع نظامنا الحالي في اخذها، وبقي الشعب في الحالتين متفرجا يحاول يستوعب ما يجري.