Wednesday, March 01, 2006

اطوار.. العراق من طور الى طور

نشرت جريدة التايمز اللندنية مقالا عن مقتل الصحفية الشهيدة اطوار بهجت تحت عنوان: "نصف سنية، نصف شيعية.. هدف للجميع". وجاء في مطلع هذا المقال ان اطوار كانت تمتلك كل الصفات لكي تكون محصنة من القتل، فهي نصف سنية ونصف شيعية، امرأة، عراقية، عمرها 30 سنة، من مواليد مدينة سامراء، وهي بعد ذلك صحفية. ولكنها قتلت على كل حال.
ولعل استشهاد الزميلة اطوار ليس الا فصلا وطورا اخر في سلسلة الاطوار الغريبة التي شهدها العراق خلال السنوات الثلاثة الماضية. فمن المقاومة الى العصيان، ومن التمرد الى طاولة المفاوضات، ومن المواجهات المسلحة الى الاعتداء على المقدسات، ومن الاستهداف العشوائي للمدنيين الى التكفير الشامل للاغلبية، ومن تطبيق مفردات الديمقراطية الى الهيمنة على الكراسي الوزارية.. ومن خدمات متردية الى خدمات مزرية الى لا خدمات، من فساد الى افساد.
اطوار العراق غريبة. بلد رزح تحت القهر والحرمان لخمسة وثلاثين عاما او يزيد. بلاد لها ثاني احتياطي نفطي عالمي، ومساحة زراعية تفوق التي لدى اكبر البلدان في الانتاج الزراعي، فرنسا. ونهران يمخران عبابه ينشران الخير يمينا وشمالا، لا يفيضان فيغرقا ولا يشحان فيهلكا. وله من المزارات والاضرحة والمقدسات لدى كل الاديان والطوائف ما يعز على اغلب بلدان العالم. وله من الشواهد الحضارية الموغلة في القدم ما اعجز الوصف وادعى للحسد. ومع ذلك، فما ان تنسم نسائم الحرية حتى سقط في فخاخ عجيبة، وراح ضحية شراك لئيمة. تربص به المغامرون والمقامرون، ومن كانت لديه حسابات مع قوى دولية واقليمية قصد العراق لتصفيتها. وبدلا من يكون (واحة الديمقراطية) اصبح (ساحة الارهاب)، وان كان البعض لا يرى فرقا كبيرا.
اطوار العراق ما كانت لترد على البال. يوم سحل العراقيون صنم ساحة الفردوس، كانت المرة الاولى في التاريخ الحديث التي يُسحل فيها تمثال القائد السابق، لا شخصه. وكان يجب ان تكون تلك البادرة تعبيرا عن طبيعة التغيير المنتظر. ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي المظلومون. فبات البلد نهبا ومستباحا من ابناءه ومن الغرباء، على الارض وفي شاشات الفضائيات.
اطوار العراق ضمت تلك الفضائيات، واشركتها في نقل الاحداث الدامية وغيرها، والمبالغة فيها حد التهويل، بل واختلاق احداث خيالية لاثبات وجهة نظر ضيقة. ثم استخدام هذه القنوات للدعاية السياسية الموجهة التي خلنا اننا قد تخلصنا منها. واخيرا دخول بعض هذه القنوات ضمن قائمة الاهداف الطويلة.
قائمة الاهداف في العراق، ككل شيء في هذا البلد، حاشدة ومنوعة. فالى جانب القوات متعددة الجنسيات، التي طلبت الحكومة المتنخبة بقاءها، احتوت تلك القائمة على الشرطة والجيش سواء من هم في الخدمة او من هم تحت التدريب، وحتى من هم في طور التقديم لا اكثر. وتضم موظفي الدولة ابتداء من رئيس الوزراء نزولا حتى ابسط سائق سيارة يسعى على الطرق الريفية من اجل تيسير شؤون المواطنين. تلك القائمة لم تستثن المدنيين في الاسواق الشعبية، ولا الاطفال والنساء في الاحياء السكنية. وشملت كذلك الحجاج في مراسيمهم الدينية، وفي صلواتهم، بغض النظر عن دينهم ومذهبهم. لم تسلم الكنائس والجوامع والمساجد من الاستهداف، ولم يشفع لها قدسيتها وقدمها وتأريخها. اما الصحفيين، الذين اعتبروا انفسهم رسل الحقيقة، والذين منهم من كان همه كشف المستور وبسط الحقائق، ومنهم من ترك اهله وعياله في هذا السعي المحموم، ومنهم اقتحم مسالك الخطر وركب المنون اعتقادا بقدسيتة مهنته. هؤلاء الذين احبت اطوار ان تكون بينهم، احبوا طوار العراق رغم غرابتها وفرادتها. وبعد ان يأسوا من خلاص يأتي ممن صوت له الشعب، امنوا بان هذا الخلاص لن يأتي الا على يد الشعب نفسه، وانبروا ينشرون الوعي وينقلون الحقيقة كما اتيحت لهم.
لاشك ان الاعداء المتربصين بهذا البلد راهنوا منذ اليوم الاول على اشعال فتيل الحرب الاهلية. ولكن للاسف انصاع لهم الكثير من قادتنا عن وعي او بغيره. فهم لم يعملوا على الوحدة الوطنية بالقدر الكافي، ودخلوا في صراعات ومهاترات سياسية لا اخر لها. وظنوا ان طبيعة الشعب العراقي ووحدة نسيجه كفيلة بمنع هذا الخطر. ولكنهم لم يضعوا في حساباتهم ان الامور قد لا تسير كما يتمنون، وان هناك من يخطط لافشال مسيرة الديمقراطية في هذا البلد حتى لا تصدر الى البلدان المجاورة. وفاتهم ان التناحر يقود حتى اكثر المجتمعات تماسكا الى التفكك.
اطوار العراق كمثل اطوار الشهيدة. براءة تطفأ، وقيم تنتهك، ودماء تستباح، وحقيقة ضائعة. فمن المسؤول؟ والى اين تسير هذه السفينة المتأرجحة بين لجج الموج العاتي. تلك السفينة المتهالكة التي قدر لها ان تحمل اثمن الاحمال، فكانت كما البعير، يحمل ذهبا ويقتات العاقول.