Tuesday, December 06, 2005

بين الجعفري وعلاوي وامنية حكومة الوحدة الوطنية

لم يشهد التاريخ الحديث لاي دولة -على ما نعلم- مثل هذا التزاحم السياسي للاشخاص والاحزاب والاحداث، كالذي حدث ويحدث في العراق خلال هذه المرحلة. هذا التزاحم الذي يعود سببه اساسا الى ضعف الاستراتيجية الامريكية في العراق، وارتكابها لسلسة طويلة من الاخطاء منذ اسقاط نظام الطغيان فيه وصولا الى تسليم السيادة. كما أثر غياب التنسيق الوطني، وتناحر الاحزاب والشخصيات المعارضة للنظام السابق، بشكل سلبي على مسيرة العملية السياسية بشكل عام.
وفي ظروف استثنائية مثل التي يمر بها العراق، ربما يعد التنافس السياسي امرا مساعدا على غربلة العناصر المختلفة في الساحة، واتاحة الفرصة لتمييز الغث من السمين. ولكن المشكلة ان التوقيتات الزمنية للاستحقاقات السياسية هي متقاربة بشكل كبير. وهذا التقارب الزمني ادى الى تشويش في ذهنية المواطن، وارتباك في تحديد دوره. ذلك ان الارادة الحرة للانتخاب والاستفتاء تعتمد بشكل كبير على مقدار الاستعداد النفسي للفرد، كما تعتمد على التوعية والثقيف الفردي والجماعي. فحتى في اكثر النظم ديمقراطية واقدمها، نجد ان الدولة تعمل على توفير المعلومات وتهيأة المستلزمات للعمليات الانتخابية قبل فترة غير قصيرة من موعدها المحدد، كما تقوم مؤسسات متخصصة، تتلقى دعما من الدولة او من المجتمع، على تثقيف الناخبين، وتهيئة الاجواء المناسبة للانتخاب، وارساء دور الرقابة العامة على مجمل العملية الانتخابية.
من ناحية اخرى، فانه لم تتح الفرصة الكافية للتيارات المختلفة، الدينية منها والعلمانية، لاثبات قدرتها على تحقيق طموحات وآمال الشعب، وعرض برامجها السياسية بشكل عملي من خلال تواجدها في السلطة. وكانت الحكومتان اللتان خلفتا سلطة الحاكم المدني الامريكي مقيدتين بهذه التوقيتات الزمنية، ومنشغلتين بشكل أساسي في توفير الظروف المناسبة لتطبيق الجدول الزمني الذي أعده مجلس الحكم السابق. وواجهت كل منهما نفس التحديات المتمثلة بالخلل الامني، والفساد الاداري، وتردي الخدمات، وتلكؤ عملية اعادة الاعمار، علاوة على مشاكل البطالة والضمان الاجتماعي. كما ان كلا منهما، بحكم كونه تيارا سياسيا، كان يرتسم ملامح وجوده ضمن اللعبة السياسية في المستقبل، مما جعلهما على نفس القدر من الانشغال الذاتي، بما يفوق الانشغال بالشؤون العامة.
وفي مثل هذا المشهد السياسي ليس من السهل على الناخب اليوم الحكم على اداء الحكومتين السابقتين، او اختيار تيار مغاير لتمثيله في الحكومة القادمة، والتي سيستمر وجودها لاربعة سنوات على الاقل. فحكومة اياد علاوي التي تم تشكيلها بالتوافق مع مجلس الحكم السابق والامم المتحدة اضافة الى الحاكم المدني، لم يكن لعلاوي نفسه يد في اختيار شخوصها. وكانت المحاصصة، التي طغت على مجلس الحكم، هي الصيغة التي تشكلت بموجبها تلك الحكومة. ولذلك فان اي خلل في اداء تلك الحكومة يمكن ان يعزى الى وزرائها منفردين، اكثر مما يُعد علاوي مسؤولا عنها بشكل مباشر.
وبعد اجراء الانتخابات، وتشكيل حكومة الجعفري، فرضت المحاصصة نفسها من جديد، بعد ان غاب او غيّب عن التمثيل البرلماني ممثلو المحافظات الغربية. ولكن الجعفري شكل الحكومة باختياره، وهو مسؤول عنها بشكل مباشر. غير ان تلك الحكومة واجهت اصعب التحديات على الاطلاق، الا وهو كتابة مسودة الدستور وتمريره بالاستفتاء العام. وقد نجحت هذه الحكومة في ذلك، رغم الاعتراضات والتحفظات التي أثيرت حول الدستور.
ان ترجيح كفة الميزان لصالح اي من هاتين الحكومتين بناءا على ادائهما في فترة توليهما السلطة لن يكون منصفا بحال. والواقع انهما قدمتا افضل ما يمكن تقديمه ضمن الظروف والامكانيات المتاحة. ولكن هناك فرق بين اداء الحكومة، وسيرة الاحزاب المؤلفة لتلك الحكومة. ففي فترة حكومة علاوي، سعت بعض الاحزاب، استمرارا للنهج الذي ساد في فترة مجلس الحكم، الى فرض هيمنتها على الوزارات والدوائر الحكومية. بيد ان حزب علاوي، الوفاق الوطني، لم يكن له مثل هذا الدور. اما في فترة حكومة الجعفري، والتي استمر فيها هذا التوجه، فقد كان حزبه، الدعوة الاسلامية، مشاركا فيه بشكل واضح.
وفيما يخص الملف الامني، فاننا لا نعتقد ان ايا من الحكومتين كانتا قادرتين فعلا على تحقيق تقدم ملموس، ولكن حكومة علاوي واجهت التمرد بشجاعة اكبر، بينما حاولت حكومة الجعفري احتواءه. ومؤتمر القاهرة قد يحسب انجازا للجعفري، ولكنه تحقق بفضل مواجهات علاوي السابقة. اما الفساد الاداري، فهو علة مستعصية، وهو أشد مخلفات نظام صدام تأثيرا، ولكن للاسف لم تتخذ ايا من هاتين الحكومتين اجراءات حازمة بشأنه، ربما بسبب صعوبة اثباته بالنسبة للافراد، وان سهل تشخيصه بالنسبة للمؤسسات. ان الخلل الامني وتفشي الفساد الاداري حالا دون تحقيق قفزة في اعادة الاعمار او في حل مشكلة البطالة المزمنة، في كلا فترتي الحكومتين.
والمجال لا يتسع لعقد مقارنة منصفة، ولكننا نعتقد ان اخطاء اياد علاوي حصلت لان حكومته لم تكترث به كثيرا، وان اخطاء ابراهيم الجعفري كانت لانه كان يكترث بحكومته كثيرا. ولو تسنى في المستقبل جمع الرجلين في حكومة واحدة لكانت -بحق- الحكومة التي تخدم الشعب والوطن.