Tuesday, September 27, 2005

الاقتصاد عنصر الوحدة الاهم

يتحدث الكثير من الناس عن امكانية وقوع الحرب الاهلية في العراق، ويصرح المسؤولون عن كونها تزحف اليه شيئا فشيئا، بينما يعتقد البعض انها واقعة فعلا الان، وان ما يحصل من خلل امني فاضح انما هو دلالة على ان البلد في حالة حرب اهلية حقيقية.
والواقع ان العراق، على امتداد تاريخه، لم يشهد حربا اهلية رغم التنوع الطائفي والعرقي، ورغم التعددية السياسية والدينية فيه. ربما كان السبب في ذلك هو طبيعة النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلد، والذي اوجد حالة من الالفة وخلق اواصر ثقافية واجتماعية وحتى عائلية وحدته، وجعلت المصاعب التي يواجهها مشاكل وطنية وان عانى منها جزءا منه فقط.
ومثل هذا النسيج لا يمكن ان يمزق او تقطع اوصاله الا اذا تمت اذابة اواصره التي عملت على ترابطه لقرون عديدة من الزمن. فاذا تمعنا في هذه الاواصر وجدنا انها اقيمت على وحدة الارض، ووحدة المصالح، ووحدة اللغة والثقافة المشتركة، واخيرا وحدة الاعداء التاريخيين. وليس بين هذه الاواصر وحدة الدين والعقيدة. فلقد تعلم العراقيون منذ القدم، انهم اذا ارادوا ان يتعايشوا بسلام بينهم فيجب ان يتمتعوا بتسامح ديني وبقبول لمعتقد الاخر وعدم السعي لنشر فكر او معتقد على حساب اخر.
ان موقع العراق الجغرافي له اهمية من ناحية الحفاظ على وحدته. فشماله محاذٍ لاوربا عن طريق الدولة المسلمة-السنية تركيا، وشرقه محاذٍ لاسيا عن طريق الدولة المسلمة-الشيعية ايران، وغربه محاذ لمجموعة الدول العربية المسلمة-السنية. وهكذا ببساطة نجد ثلاث قوميات محيطة بالعراق مقابل مذهبين لدين واحد. ولو تصورنا انقسام العراق الى اجزاء –لاسمح الله- فمن الواضح ان تأثيرات تلك القوميات ستختلط في العراق مع تأثيرات المذاهب. واذا حدث وتفتت الدولة فستتعرض جميع الدول المحيطة بالعراق الى اغراء التدخل. خاصة اذا ادخلت الثروات الطبيعية ضمن المعادلة الاقليمية.
ومع ذلك، فان هذا الموقع هو الذي منع تفتت العراق منذ امد بعيد. حيث ان وحدة الشعب الاقتصادية وتشابك المصالح داخل الوطن بما يخدم عموم البلد دفع ابناءه الى طرح الاختلاف جانبا والتركيز على العوامل المشتركة، والمصلحة الوطنية العليا. ذلك ان العراقيين ادركوا انهم انتقسموا الى اجزاء، فلن تكون هناك دولة اسمها (العراق) بل ستلتحق كل فئة باحدى الجارات النهمة لابتلاع اراضيه. ان اخر ما يتمناه اهالي الموصل ان يصبحوا ولاية تركية، كما ان اهالي البصرة يرفضون ان يتحولوا الى اقليم ايراني. وغرب العراق ليس سوريا او اردنيا. واكراد العراق ليسوا امة منفصلة لا تمتلك جذورا مع الوطن، وان كانت لهم خصوصية لا قومية تنكر.
في بداية شهر شباط يبدأ محصول الطماطم بالدخول الى اسواق المحافظات كافة قادما من البصرة. وخلال بضعة اسابيع تحل طماطم النجف محل تلك البصرية، وبعد اسابيع اخرى نجد طماطم كركوك هي التي لها اليد الطولى في الاسواق. ويعلم العراقيون انهم بغير البلد الواحد لن يتمكنوا ابدا من ايجاد مثل هذا التبادل التجاري الذي يمتد ليشمل العشرات من المحاصيل الزراعية، والمئات من المنتجات المصنعة محليا او مستوردة من مناشيء مختلفة. وقد نشأت الاسواق في المدن العراقية وانتظمت خطوط التجارة على اساس هذا التنقل الحر في البضائع والمنتوجات. وشكل مجاورة بعض المحافظات لدول معينة علاقات تجارية مع تلك الدول بما يعود بالنفع على جميع المحافظات الاخرى.
ولكن اذا استمر التهديد الامني للطرق التجارية ضمن العراق الواحد، واذا استمر ضمور الحركة الاقتصادية مع الدول المجاورة، فلربما لن يكون عنصر التكامل الاقتصادي، او التبادل التجاري هو معيار الوحدة الاهم. ومع الاخذ بنظر الاعتبار محاولات التدخل الخارجي في خلق فتنة طائفية داخلية لافشال المشروع الديمقراطي في العراق، واستعمال الدين في الخطاب الوطني مع العلم بعدم توحد الاتجاه المذهبي، فان عناصر الوحدة قد تكون تعرضت جميعها الى اختبار صعب. خاصة اذا اضفنا اليها غياب عنصر التوحد في مواجهة الغزو الخارجي، فقد شهدنا حالات من التدخل السافر لدول الجوار في الشأن الداخلي ولكن كان هناك من بين العراقيين (وحتى من المسؤوليين الحكوميين) من يبرر مثل هذه الافعال، او ينفيها حتى مع قيام الدليل. وما ذلك الا لتغطية انتماء هذا الشخص او المسؤول لتلك الدولة. ولا نشك في انه لن يأل جهدا للمساهمة في اخضاع هذه المنطقة او تلك لنفوذ الدولة التي يواليها.
لذلك فان خطر الحرب الاهلية سيكون حقيقيا اذا لم تتخذ الدولة اجراءات حقيقة لتشجيع التبادل التجاري، وتنمية القطاعين الصناعي والزراعي ليكونا عونا في بناء اقتصاد وطني يكون هو الاساس الحقيقي للوحدة الوطنية. وقد لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي خلال فترة وجيزة، ولكن السعي من اجل التغيير يمكن لوحده ان يمنح العراقيين الصبر على القهر اليومي في حياتهم، ويعزز امالهم في غد افضل.